ميديا وفنون

“كودا”: تحفة سينمائية عن الصم والعائلة والحياة حطّم التوقعات وحصد أوسكار 2022

لا يوجد فنّ بمقدوره نقل الحياة بحلوها ومرها، مثلما تفعل السينما. تمنحك فرصة الحصول على الكثير من الأجوبة، لأسئلة تطرحها في ذهنك، تعيش مع أبطالها حيوات عدة وتجارب مختلفة.

قلما تناولت السينما العالمية عالم الصم والبكم بهذه الكمية من العمق، والحب، والاقتراب أكثر من خصوصيتهم، ومعالجة مشاكلهم بطريقة إنسانية بعيداً عن الشفقة.

في مفاجأة مدوية ربما لم يتوقعها حتى صنّاعه، فاز فيلم “كودا” (Coda) بأوسكار أفضل فيلم، بعدما تنافس مع 9 أفلام أخرى ذات ميزانية كبيرة شارك فيها أشهر النجوم.

عمل صغير مقتبس عن الفيلم الفرنسي “La Famille Bélier”، يشبه الأفلام  التي اعتدنا على مشاهدتها على قنوات التلفزيون المحلية في صغرنا، يقدم قصة فتاة مراهقة في المدرسة الثانوية، طارحا تفاصيل حياتها القاسية المغلفة بوعاء من المشاعر اللطيفة التي تخفف الألم، في داخل هذا الإطار لعبة درامية جعلته يستحق مكانته في قائمة الأفضل.

قصة لا تُسمع بل تُرى

“كودا” هو اختصار لعبارة  Child Of Deaf Adults، وتعني “إبن لشخص مصاب بالصمم”، وفعلا الفيلم يدور حول ذلك، حيث يعالج موضوع جد حساس وهو فقدان القدرة على السمع و الكلام. ويسلط الضوء على المشاكل والمعاناة التي تواجههم في الحياة اليومية. وذلك بطريقة غير مباشرة، حيث ركز الفيلم على حياة ابنتهم الصغيرة، التي تختلف عن جميع أفراد عائلتها وتستطيع التحدث. أول عمل يترشح لجائزة أوسكار كأفضل فيلم أغلب طاقمه من الصم، ولكن الأمر لم يتوقف عند اختيار الممثلين، بل الأهم طبيعة أزمات شخصيات العمل بسبب هذه الإعاقة، وكيفية تعامل صناعه معها.

الفيلم من إنتاج شركة TV  Apple سنة 2021، وإخراج سيان هيدر، بطولة إيميليا جونز، مارلي ماتلن، تروي كوتستور، دانيال دورانت و أوخينيو ديربيز. وهو أول فيلم يُعرض على منصة إلكترونية ويفوز بجائزة أوسكار، وقد فازت آبل في الحرب التي خاضتها مع “نتفليكس”  لأكثر من مرة قي تحقيق شروط الجدارة لأعمالها في الأوسكار والمهرجانات السينمائية.

 

كودا حبكة تشبه ولا تشبه كل القصص

تظهر قصة فيلم كودا كفيلم “بلوغ” أو ما يطلق عليه (Coming-of-age) وهي الأفلام التي تتناول شخصيات في مرحلة المراهقة، وصعوباتها في تحديد ماهية شخصيتها خلال فترة تحفل بالكثير من التغيرات الهرمونية والحياتية، فأحداث الفيلم تتمحور حول المراهقة “روبي” التي تدرس في السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية وتمتلك موهبة كبيرة في الغناء، ولكن في الوقت ذاته مقيدة بعائلتها التي يعاني كل أفرادها الصمم ما عداها، فتحولت مع الوقت إلى المترجم المعتمد لهم في تعاملهم مع العالم الخارجي، وحجر الأساس في بقائهم عائلة متماسكة.

كل قواعد هذا النوع من الأفلام جاهزة، فتاة مراهقة ذات ملامح عادية وقلب دافئ وموهبة كبيرة، عائلة متطلبة لكن مُحبة، زميل وسيم في المدرسة الذي تبدأ بينهما قصة عاطفية جميلة، ومعلم ملهم يدفعها تجاه تحقيق أحلامها.

 

أفضل سيناريو مقتبس لشخصيات صماء في السينما العالمية

صحيح أن فيلم كودا هو النسخة الأميركية مقتبس من فيلم فرنسي بعنوان قدم القصة ذاتها عام 2014، وحقق نجاحا تجاريا كبيرا في فرنسا، إلا أن مخرجة النسخة الأميركية سيان هيدر لم تلتزم بكل تفاصيل النص الفرنسي، بل أجرت بضع تغييرات، مثل طبيعة عمل الأسرة، والبلد التي يقيمون فيه، لكن الجديد هنا والذي صنع كل الفارق هو اختيار طاقم الممثلين.

عملت سيان هيدر على إغناء فيلمها البسيط، وذلك عبر إعاقة جميع أفراد العائلة، ما عدا الابنة روبي التي عززتها هواية معاكسة تمامًا، وهي الغناء؛ هواية لا تستطيع مشاركتها مع أقرب الناس إليها، ولا يفهمون حتى ماهيتها، مما أدى إلى صراع المراهقة النفسي بين رغبتها في حماية عائلتها للأبد، وشعورها بالواجب تجاههم، وأمنيتها الخفية أن تستطيع يومًا فرد أجنحتها، والطيران بعيدًا نحو مستقبلها الخاص كأي مراهقة أخرى.

للمفارقة، نسخة الفيلم الأميركي من بطولة فنانين مصابين بالصمم بالفعل، وهي مجموعة فنية مثيرة تتكون من مارلي ماتلن الحائزة على جائزة الأوسكار، والممثل تروي كوتسور الذي حصل عن دوره هذا على أوسكار أفضل ممثل في دور مساعد، ودانيال ديورانت، مما أضفى على الاقتباس نوعًا نادرًا من الأصالة.

كذلك 40% من نص الفيلم مكتوب بلغة الإشارة، مع إضافة ترجمة على الشاشة، مما يعتبر أفضل تقديم ممكن لشخصيات صماء في السينما العالمية، وجعل سيناريو الفيلم مختلفًا بشكل قد يكون الدافع وراء حصوله على جائزة أفضل سيناريو مقتبس.

 

التغلب على العمالقة واقتناص جائزة أوسكار أفضل فيلم

بميزانية لا تتجاوز 10 ملايين دولار، وافتتاحية في مهرجان “صندانس” السينمائي، نجح الفيلم في الفوز بأكثر من ترشيح في حفل جوائز الأوسكار 2022. ووفقاً لموقع “فوكس” الأمريكي، حقق فيلم كودا أكثر من سَبْق بفوزه، فهو أول فيلم من توزيع منصة “أبل”، وأول فيلم يتم افتتاح عرضه في مهرجان “صندانس” يتمكن من اقتناص أوسكار أفضل فيلم.

فيلم كودا من بطولة تروي كوتسور وإيميليا جونز ومارلي ماتلن، وهم نجوم محدودي الشهرة نوعاً ما، إذ لم يحتو الفيلم على طاقم تمثيل من عمالقة هوليوود المعروفين. مثّل فوز “كودا” مفاجأة للجميع دون مبالغة، فقد خالف كل التوقعات، حيث كان فيلم “The Power of the Dog” الأقرب للفوز، بتلقيه 12 ترشيحاً في فئات الحفل المختلفة.

غامرت منصة “أبل” باختيار فيلم كودا، رغم أنه لم يحقق نجاحاً فور طرحه في أغسطس/آب 2021، ولم يحظ باهتمام جماهيري، لكنها مغامرة آتت ثمارها. كما  واقتنص كودا جائزة أفضل ممثل بدور مساعد، إذ نالها تروي كوتسور الأصمّ منذ الولادة، مهدياً الفوز إلى مجتمع الصم وذوي الهمم، فيما فازت مخرجة الفيلم شان هيدر بجائزة أوسكار أفضل سيناريو مقتبس. 

ربما “كودا” أفضل عمل تمثيلي حتى الآن قُدم لفئة المصابين بالصمم في السينما، وسيظل فوزه بأوسكار لغزًا للأجيال القادمة، فمن بين 10 أعمال منها أفلام لمخرجين مخضرمين مثل ستيفن سبيلبيرغ وبول توماس أندرسون وجييليرمو ديل تورو، فاز الفيلم الروائي الثاني للمخرجة الأربعينية سيان هيدر، محققًا مفاجأة تفوق الخيال.

 

 

يحيى الطقش

طالب لبناني يدرس الصحافة في كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى