منوعات

في مواجهة أسعار التبغ والدخان جنوباً: صناعة السجائر سرّاً

ارتفاع أسعار علب السجائر، وتدني سعر كيلو التبغ المسلّم الى “الريجي” من قبل المزارعين، جعل من عشرات المزارعين يلجأوون الى فرم اوراق التبغ اليابسة وبيعها سراًّ الى الأهالي وبأسعار مقبولة.

في غرف بعيدة عن أعين “الريجي” اضطرّ مزارعوا التبغ لاستغلال انتاجهم السنوي “من خلال تخبئة كميات قليلة من اوراق التبغ، واستخدام الآلات الحادة لفرمها، وبيعها في السوق السوداء” يقول أحد المزارعين الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، مبيناً أن “معظم المزارعين هذه السنة قرروا بيع ما يمكن بيعه من التبغ المفروم، لا بل تطور بعضهم لصناعة اللفائف الورقية وبيعها جاهزة للزبائن بأسعار متدنية عن أسعار السوق، الأمر الذي زاد من عدد الزبائن”، ويلفت الى أن “السسب الرئيسي لانتشار تجارة التبغ المفروم، هو امتناع “الريجي” عن تحسين أسعار التبغ الذي تسلمته من المزارعين بشكل عادل، لأن هذه لأسعار حتماً تؤدي الى خسائر كبيرة لمئات المزارعين، وبالتالي حرمانهم من وسيلة عيشهم الوحيدة”.

يذكر المزارع خالد عليان أن “زراعة التبغ التي كانت مصدر عيش مئات المزارعين الجنوبيين، الذين يعملون مع عائلاتهم طيلة أيام السنة، باتت مكلفة جداً اليوم، فهي تحتاج سماد غالي الثمن، المياه شحيحة، أكياس الخيش والخيطان ارتفعت أسعارها بشكل فاحش أيضاً، أما مؤسسة الريجي فلم ترفع بدلات شرائها للانتاج وهو أمر سيؤدي الى كارثة اقتصادية تضاف الى الكوارث الأخرى”. ويشير الى أن “بيع التبغ المفروم هو حلّ جزئي، ولكنه مغامرة بحدّ ذاته، نحن نريد استعادة رأسمالنا الذي ندفعه على زراعة التبغ التي لا بديل عنها، ومؤسسة الريجي اذا علمت بذلك سوف تمنعنا من الزراعة”، ويبيّن عليان أن “عشرات الأهالي باتوا يطلبون شراء كميات كبيرة من التبغ المفروم، لكن الأمر يحتاج الى أوراق تبغ جيدة، ونوعية تختلف بحسب طلب الزبون، فمنهم من يريد التبغ الأقل حماوة وهذا مرتبط بنوعية الأوراق المزروعة، وطريقة ريّها”.

ويذكر المزارع محمد سرور أن “التبغ اللبناني هو من أفضل أنواع التبغ في العالم، لذلك يتم بيعه من قبل الريجي بأسعار مرتفعة جداً، وهي بدورها تستورد التبغ التركي بأسعار متدنية لاعادة تصنيعه في لبنان وبيعه بأسعار السوق، فهي تحقق أرباحاً كبيرة على حساب المزارعين، بينما المزارعين يتضورون جوعاً”.

ويرى أن “ارتفاع أسعار علب السجائر بشكل جنوني، هو ما جعل العشرات، بل المئات من الأهالي يلجأون الى شراء التبغ المفروم، تمهيداً لتعبئته بلفائف مصنّعة سلفاً، والقليل منهم من يلجأ الى شراء أوراق الّلفائف من الخارج، ليعمد الى لفّ التبغ المفروم بها”.

يذكر أن ثمن آلة تعبئة السجائر الفارغة بالتبغ المفروم ارتفع لأكثر من 15 دولاراً أميركياً، أما كيلو التبغ المفروم قارتفع من 15000 ليرة الى 150 ألف ليرة، وهو “يكفي لتعبئة حوالي 1200 سيجارة بحجمها الطبيعي”.

إذن وبالمقارنة فإن هذا السعر أغلى بكثير من سعر كيلو التبغ غير المفروم الذي تتسلمه مؤسسة الريجي من المزارع، والذي لا يزيد على 40 ألف ليرة لبنانية، الأمر الذي يحقق أرباحاً كبيرة نسبياً للمزارعين، وبحسب سرور فإن “الريجي تلاحق أي مزارع يعمد الى بيع التبغ لغير المؤسسة، والعقاب هو سحب رخصة زراعة التبغ منه”.

اذاً المزارعون والمدّخنون يحاولون الهروب الى الأمام، بهدف التوفير ومواجهة الأزمة المعيشية الخانقة، والبيع يتم سرّاً.

يذكر أن منطقة بنت جبيل والنبطية كانت قديما تشتهر بصناعة لفائف التبغ، حتى النصف الثاني من عشرينات القرن الماضي، وكانت زراعة التبغ حرة، ويتم توزيع لفائف التبغ المصنّعة الى معظم المناطق اللبنانية كما يهرّب جزء كبير من الانتاج الى بعض الدول المجاورة، وأحياناً الى مصر.

وفي أوائل الثلاثينيات أنشأ بعض المزارعين الكبار عدة معامل لصناعة السجائر في جبل عامل، توزّعت بشكل رئيسي بين بنت جبيل والنبطية، “منها ثلاثة معامل للصناعة والاتجار بالانتاج في بنت جبيل، وكان يعمل فيها حوالي عشرون عاملاً وعاملة بعضهم من حلب وفلسطين، وثلاثة معامل في النبطية ضمّ أحدها أكثر من 40 عامل. وكانت أجرة العامل ليرة لبنانية، بينما أجرة العاملة 50 قرشاً، أما ثمن مبيع علبة الدخان فهو 30 قرشاً” بحسب المؤرخ مصطفى بزي في كتابه “التكامل الاقتصادي بين جبل عامل ومحيطه العربي”.

وقد استمرت هذه المعامل حتى العام 1935 عندما طبّق نظام الاحتكار الحديث للتبغ وطلب من أصحاب المعامل اغلاق معاملهم والتوقف عن العمل والاشتراك كمساهمين في شركة الدخان اللبنانية السورية والذي طبّق على كل بلاد الشام، وفي النبطية كان يوجد ثلاثة معامل تضمّ عشرات العمال، وبعضها بقي يعمل سرّاً الى حين اقفاله جبراً من قبل مؤسسة الريجي.

داني الأمين

داني الأمين

صحافي وباحث. حائز على اجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى