منوعات

التأثّر بحضارة الهند.. ظاهرة ثقافيّة تجتاح العالم

التأثّر بحضارة الهند ظاهرة لا تستثني بلداً ولا مثقّفاً أو مفكّراً، إلّا فيما ندر. فأينما تجوّل المرء، يصادف شخصاً أو أكثر يمارس اليوغا أو التأمّل الهندي، أو يقرأ في كتب الهند القديمة أو ينتهج نهجاً مأخوذاً عن أحد الحكماء الهنود، قديمهم أو حديثهم.
موقع “أحوال ميديا” التقى “المستهند” والباحث والمؤلّف المتخصّص في علوم الأديان والدراسات الهنديّة، د. لويس صليبا، الذي فسّر سبب انتشار الأثر الهندي في مجتمعاتنا:

– لماذا يتأثّر المثقّفون بالهند تحديداً؟

لا شكّ أنّ التهنود أو التأثّر بالهند ظاهرة عامّة ومنتشرة في كثيرٍ من البلدان، ولا سيّما الغربيّة منها في زمن العولمة الضاغط هذا. ويعود ذلك إلى أنّ الإنسان المعاصر، ولا سيّما في الغرب، يبحث عن روحانيّةٍ عابرةٍ للأديان، علمًا أن الروحانيّة شيء والدين شيء آخر. فالدين بمفهوم الأديان الإبراهيميّة، يقوم على عقيدةٍ وطقوس، والإنسان المعاصر يبحث عن التجربة والاختبار، وهذا ما تؤمّنه الروحانيّة، في حين غالباً ما تغفله الأديان. وقد يجتمع مؤمنون بأديانٍ مختلفةٍ على روحانيّةٍ واحدة، واليوغا والتصوّف أمثلة على ذلك.
ومن نقاط القوّة في الثقافة الهنديّة أنّها تقدّم لإنسان اليوم روحانيّة منفصلة ومستقلّة عن الأديان، ما يمكن أن نسمّيه روحانيّة علمانيّة “Spiritualite Laique”. ومن هنا انتشار ظاهرة التهنود شرقاً وغرباً.

-ما هي نقاط الجذب في الحضارة الهنديّة؟

نقاط الجذب في الثقافة الهنديّة عديدة ولكن أكتفي باثنتَين:
1 – التسامح والانفتاح: ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ العقيدة ليست الركن الأساسي في الهندوسيّة وسائر أديان الهند، إذ يمكن لامرئٍ أن يكون من أتباع كريشنا ويكون هندوسياً، وآخر أن يكون من أتباع الإله اللاشخصي برهمن Brahman، ويكون هندوسيّاً أيضاً، ولثالثٍ أن يكون ملحداً لا يؤمن بأيّ إلهٍ أو خالق، دون أن تنتفي صفة الهندوسيّة عنه. وتجد في العائلة الواحدة في الهند كلّ يتّبع إلهاً أو مسلكاً يختلف عن الآخر، من دون أن يشكّك أيٌّ منهم بهندوسيّة الآخر.
2- النقطة الثانية: اللاعنف. وهو أصيلٌ ومتجذّرٌ في الحضارة الهنديّة وتاريخها العريق والضارب في القدم. فقبل غاندي، مثلًا بوذا ومهافيرا وغيرهما من المعلّمين من القرن السادس قبل الميلاد وما قبله، عاشوا اللاعنف وعلّموه. وإذا كان غاندي قد نجح في النصف الأوّل من القرن العشرين في تحرير شبه قارّةٍ بأسرها من الاستعمار بطرقٍ ووسائل لاعنفيّة، ودون إطلاق رصاصةٍ واحدة، فلأنّ الإنسان الهندي، وكذلك الحيوان، ينشأ ويربّى منذ الصغر على اللاعنف.

– على صعيد المفكّرين اللبنانيّين، هل بدأ التأثّر بالهند عند جبران ونعيمه؟ وهل انتهى عندهما؟

أشهر المتأثّرين وأوّلهم على صعيد لبنان هو جبران خليل جبران. ويأتي ميخائيل نعيمه بعد جبران، وهو زميله. ومصادر تأثّراتهما الهندويّة واحدة وهي الحركة التيوزوفيّة. بيد أنّ الأثر الهندوي في الفكر اللبناني لا يتوقّف عند جبران ونعيمه، ولا ينتهي برحيلهما. فكمال جنبلاط مَعلَمٌ بارز من معالم الأثر الهندي في الفكر اللبناني، وهو مفكّر فيدانتي أصيل أخذ الفيدانتا عن حكيمٍ معاصرٍ معروفٍ هو سوامي أتمانندا. اشتهر جنبلاط باليوغا واشتهرت به، في لبنان والعالم العربي، حتّى كان يقال “يوغيّ مثل كمال جنبلاط”.
ولا يتوقّف الأثر الهندي عند هذا المثلّث المشهور: جبران ونعيمه وجنبلاط. درستُ مثلاً في أطروحتي “أقدم كتابٍ في العالم: ريك فيدا” أعمال الشاعر وديع البستاني ابن عمّ مترجم الإلياذة الشهير سليمان البستاني. أقام البستاني في الهند أربع سنوات 1912-1916، وتعلّم السنسكريتيّة. وشدّد في بحوثه على أنّ الهنود موحّدون، والأدب الهندي ملحميّه ومولّده لا أثر فيه لوثنٍ ولا لوثنيّة.
وتطول لائحة المفكّرين والأدباء اللبنانيّين الآخذين عن الثقافة الهنديّة. فمن العلماء والباحثين العلّامة روبير كفوري، فهو مرجع في الدراسات السنسكريتيّة والهنديّة، ومؤسّس حلقة الدراسات الهنديّة، وهو رأس المستهندين في لبنان، أتقن اللغة السنسكريتيّة وعلّمها وترجم عنها نصوصاً عديدةً ولا سيّما الكيتا والشيفا سامهيتا ويوغا سوترا. وله نحو خمسة عشر كتاباً بين دراسةٍ وترجمة، أكثرها بالعربيّة، وبعضها بالفرنسيّة والألمانيّة.
وممّن نذكر أيضاً العالِم البروفسور أنطوان أبو ناضر، وهو طبيب ومتخصّص في الطبّ الفيدي وله العديد من المؤلّفات والبحوث الطبيّة والعلميّة، وهو خليفة الحكيم الهندي مهاريشي ماهش يوغي، مؤسّس ومعلّم تقنيّة التأمّل التجاوزي وناشر المعرفة الفيديّة في العصر الحديث.
وأذكر من بين الروّاد أيضاً الدكتور قيس غوش: يوغي عتيق، وله مؤلّفات عديدة في اليوغا والتقمّص والحكمة الهنديّة والأثر الهندي في الأدب العربي واللبناني.
وممّن درستُ الأثر الهندي في أدبه، المخرج والمسرحي جلال خوري، وكان يوغيّاً لامعاً، وقد درستُ أعماله المسرحيّة على ضوء الأثر الهندوي في كتابٍ سيصدر قريباً. وأذكر من الشعراء والزجّالين موسى زغيب، فهو يعلن صراحةً نباتيّته وإيمانه بالتقمّص. ولعلّ الأثر الهندي وصله من جبران ونعيمه. وقد درستُ شاعريّته وتأثّراته الهنديّة في كتابٍ عن الزجل اللبناني سيصدر قريباً.

– ما الفرق بين المتهنود والمستهند؟

المتهنود هو المتأثّر بالثقافة الهنديّة، كمن يمارس اليوغا مثلاً. أمّا المستهند فكالمستشرق، فهو عالِم الهنديّات، أي من تعلّم اللغة السنسكريتيّة (لغة الهند القديمة) وأقام في الهند، ونقل بعضاً من تراثها إلى لغته. ولمزيدٍ من الإيضاح سنضرب أمثلةً على ما نقول من المفكّرين والأدباء اللبنانيّين الذين ذكرناهم للتوّ. جبران مثلاً من المتهنودين، عرف الثقافة الهنديّة والفكر الهندي عبر الجمعيّة التيوزوفيّة وتأثّر به، وعبّر عن هذا التأثّر في مؤلّفاته. وهي حال المسرحيّ جلال خوري، فهو متهنود مارس اليوغا والتأمّل واطّلع عن كثبٍ على التراث الهندي والفلسفة الهنديّة وتأثّر بهذه الثقافة في مسرحيّاته. أمّا روبير كفوري، فإضافةً إلى أنّه متهنود، فهو مستهند: أقام في الهند ردحاً طويلاً من الزمن، أتقن اللغة السنسكريتيّة إضافةً إلى اللغة الهنديّة وعلّمهما. قرأ التراث الفلسفي والروحي الهندي بلغته الأصليّة السنسكريتيّة أو الفيديّة، ونقل أقساماً منه إلى العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة. إنّه عالِم هنديّات، وهو بالتالي مستهند. وهي حال وديع البستاني الذي أقام في الهند كما أشرنا، ودرس السنسكريتيّة، وعرّب عدداً من آثار التراث الهندي. ويسهل أن يكون المرء متهنوداً، فأيّ يوغيٍّ عرف الفكر الهندي وتأثّر به متهنود، وليست هذه حال المستهند لأنّه عالِم متبحّر في تراث الهند وفلسفتها وحضارتها عموماً ويعرف لغتها القديمة، وليس مجرّد هاوٍ أو محبٍّ للثقافة الهنديّة، إنّه محترف. ويمكننا أن نقول باختصار: كلّ مستهندٍ متهنود، وما كلّ متهنودٍ مستهند.

– هل اليوغا الثمرة الوحيدة للحضارة الهندية التي غزت العالم؟

اليوغا هي الأشهر والأكثر انتشاراً، لأنها عمليّة، تطبيقيّة واختباريّة، ولأنّها أوّل ما نُشر في الغرب من ثقافة الهند. ونذكر هنا أنّ سوامي فيفكاننداVivekananda (1863-1902) تلميذ الحكيم الشهير راماكريشنا، هو أوّل من نشر في الغرب المعرفة الهنديّة، وعلّم اليوغا.
بيد أنّ اليوغا ليست الوحيدة، فثمّة أنظمة وجوانب أخرى من الثقافة الهنديّة منتشرة اليوم في العالم وتعرف نجاحاً ملحوظاً، ونذكر هنا بعضاً منها:

1- الطبّ الهندي، أو الطبّ الفيدي أو Ayurveda، وهو نظامٌ صحّي وطبّي متكامل، وأداة التشخيص الأساسيّة فيه جسّ النبض. وقد أعيد اليوم تحديث هذا النظام الطبّي العريق ورفده ببحوثٍ علميّةٍ وطبيّةٍ عديدةٍ أظهرت فاعليّة علاجاته، ما أدّى إلى انتشارٍ واسعٍ له في الغرب والشرق.
2- الهندسة الفيديّة: تُركّز على علم الاتّجاهات Orientations، وبالتالي العمارة الصحيّة والعيش في بيئةٍ نظيفة، ومحيط صحّيّ منسجم مع الطبيعة ونواميسها.
3- الزراعة الفيديّة: وهي نمط من الزراعة العضويّة والطبيعيّة، وهي ضدّ حراثة الأرض، وتعتمد طرقاً بديلةً أثبتت فاعليّتها، وإنتاجها الزراعي صحّيّ مئةً بالمئة، لذا تعرف انتشاراً ملحوظاً اليوم في الغرب.
4- الموسيقى الفيديّة: وتأثيراتها الصحيّة والنفسيّة عديدة، وأكتفي بأن أذكر هنا أنّ طريقة الراقصين الهنود في تحريك العيون أفقيّاً يميناً ويساراً، أخذها علم النفس والطبّ النفسي عنهم وتعرف بـ EMDR، وأثبتت فاعليّةً كبرى في العلاجات النفسيّة، وتعرف انتشاراً واسعاً في الأوساط السيكولوجيّة اليوم.
5- علم الأبراج والتنجيم الهندي: جوتيش. وعلوم التنجيم والخيمياء رائجة في الهند، وتعرف اليوم رواجاً مماثلاً في الغرب والشرق كذلك.

– ما هو التأمّل، وما الفرق بينه وبين اليوغا، وما المشترك بينهما؟

أوّل ما يخطر للإنسان المعاصر عندما تُذكر اليوغا: اليوغي الذي يمارس تمارين ووضعيّات اليوغا الصعبة والذي يمتلك ليونة جسديّة ملحوظة. ولكن، ما هذا سوى جانب بسيط وأوّليّ من اليوغا. ففي اليوغا مدارس وأنظمة عديدة، وليست اليوغا الجسديّة سوى واحدة منها، وتُعرف تحديداً بـ”هاتا يوغا”.
هناك أيضاً يوغا العمل: كارما يوغا، ويوغا المعرفة والفلسفة: جنانا يوغا، ويوغا التكرّس والعبادة: بهاكتي يوغا. أمّا التأمّل، فجزء من اليوغا الملكي: راجا يوغا أو اليوغا الفكري، وهو أعرق أنظمة اليوغا، أسّسه مهارشي باتنجلي (القرن الرابع قبل الميلاد) وكتابه “يوغا سوترا” أشهر مصنّفات اليوغا وأقدمها.

-هل هناك نوع من التأمل يختصّ بالهند؟

ما من طريقةٍ أو نمطٍ في التأمّل إلّا وعرفَته الهند وعلّمته، إنّها معلّمة التأمّل بامتياز، وما من طريقة تأمّلٍ إلّا وأخذت عن الهند أو تأثّرت بها. وطرق التأمّل المتداولة أو المنتشرة اليوم يمكن تقسيمها إلى خمس فئات:

1- الذكر أو ترداد صيغة أو مانترا Verbalisation.
2- التركيز Concentration.
3- التصوّر أو التخيّل Visualisation.
4 – التطلّع أو المشاهدة Contemplation.
5 – المراقبة (مراقبة النّفَس مثلاً) Observation.
ولا يمكن فصل التأمّل عن اليوغا، فهو كان وسيبقى جزءاً لا يتجزّأ منها.

– ماذا قد يقدّم التهنود للإنسان المعاصر وللمجتمعات الحديثة؟

يكفي أنّ الهند تعلّمنا اللاعنف، وهو ألفباء مبادئ اليوغا وشُعَبها. وقيَمها هي تماماً النقيض لقيَم الثقافة المركنتيليّة والنفعيّة التي يعمّمها المجتمع الاستهلاكي والصناعي والرقمي الراهن.تعود الهند اليوم مجدّداً باليوغا والتأمّل وغيرهما لتعلّمنا أن نحلّ مشاكلنا بمعزلٍ عن الغضب والانفعال والأنانيّة وعلى قاعدةٍ من الهدوء والغيريّة والتبصّر والاستبصار، وأن لا يستمرّ الإنسان المعاصر بالتالي فريسة انفعالاته السلبيّة كالخوف والحقد والقلق وغيرها، ممّا يودي به حكماً إلى المرض فالموت.

ربيع داغر

ربيع داغر

صحافي وكاتب لبناني. كتب في عدد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية اللبنانية والعربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى