مجتمع

د. ماريان علوان من مستشفى الروم: هذا المشهد لن أنساه في حياتي 

أكثر من شهرٍ مرّ على انفجار مرفأ بيروت وما زالت قصص الناجين والأبطال الذين عايشوا التجربة المُرّة تطفو كل يومٍ من تحت ركام المدينة التي ما زالت تحاول النهوض من نكبتها.
ماريان علوان طبيبة في مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي “مستشفى الروم” في بيروت كانت موجودةً يوم 4 آب في حرم المستشفى الذي شهد دماراً كبيراً، وسقط له أفرادٌ من طاقمه التمريضي وعددٌ من المرضى، وهي تستعيد في حديثها معنا أحداث اليوم المشؤوم وتفاصيل قصصٍ موجعةٍ لم تُروَ بعد.

كانت الساعة الخامسة والربع من بعد ظهر الرابع من آب عندما قررت ماريان علوان مغادرة مستشفى الروم حيث تعمل منذ بضعة أشهر كطبيبةٍ مقيمةٍ في قسم الطب الداخلي.


لم تعرف الطبيبة الشابّة أنها بعد أقل من ساعة من الوقت ستكون شاهدةً على أكبر كارثةٍ إنسانيةٍ سيواجهها القطاع الطبي في لبنان وأن مدينة بيروت التي تعشقها ستعرف دماراً لم تشهده حتّى في أسوأ مراحل الحرب اللبنانية.
لم تكد تصل الى منزلها حتى بدأت الأخبار تنتشر حول انفجار مهول دوّى في أرجاء العاصمة.
لحظات وبدأ هاتفها يتلقى الرسائل والاتصالات بوتيرة جنونية. الأهل يحاولون الاطمئنان وطاقم المستشفى يحاول لملمة أفراده والطلب من الجميع التوجّه اليه أينما كانوا للمساعدة على الأرض. لم تكن الصورة واضحةً بعد. لم تعرف ماريان حينها أن جزءً كبيراً من المستشفى مدمّر وأن ممرضين وممرضات تعرفهم جيّداً باتوا في عداد الشهداء وأن مرضاها الذين كانت تسهر على تعافيهم سقط الكثير منهم بين جريح وشهيد.
تقول: “لقد عرف هذا البلد عبر تاريخه الكثير من الويلات من حروب وتفجيرات واغتيالات ولكن لم أكن أتخيّل أن يأتي يومٌ يصبح فيه المستشفى الذي لطالما كان المكان الآمن الذي يلجأ اليه الجرحى والمصابون في النكبات هو بدوره مكاناً منكوباً وبحاجةٍ لمن يداويه”.
وتروي:” في طريق العودة الى المستشفى كنت مذهولةً من حجم الدمار في الشوارع وقد استغرقني الذهاب اليه ضعف الوقت المعتاد. وعندي وصولي كانت الصدمة. ذهولٌ تام. الدمار كان هائلاً. لم يكن لديّ الوقت لالتقاط أنفاسي. الجدران كانت مهدّمة، الأبواب مخلّعة، الزجاج متناثر في كلّ مكان. عتمةٌ وغبارٌ وحجارةٌ في كل الأرجاء. بسرعة بدأنا نتفقّد المرضى. كان الأمر لا يصدّق. كنّا ندوس على الركام ونتقدّم على ضوء هواتفنا في ظلّ عتمة تامّة. ورحنا نحمل المرضى بأنفسنا وننقلهم من الطوابق العلوية الى الطابق الأرضي عبر السلالم لان المصعد كان بالطبع خارج الخدمة، وذلك لنحدّد حالتهم بين مستقرّة أو غير مستقرّة تمهيداً لنقلهم الى مستشفيات أخرى”.
وتضيف: “أحياناً كنّا نخلع الأبواب خلعاً عندما يتعذّر فتحها لنتمكّن من دخول الغرف. وكنّا نحاول ألاّ تزِلَّ أقدامنا بينما كنا نحمل المرضى على أكتافنا ونتوجّه بهم الى أقسام أقل تضرراً. للأسف كنا قد فقدنا عدد من المرضى في الانفجار وفقدنا 4 زميلات لنا من الطاقم التمريضي. وكنا نحاول إنقاذ الباقين والوصول الى الجميع ولكن المشهد كان مرعباً ولا يمكنني حتى أن أصفه جيّداً”.

أكثر ما يؤلم ماريان هو فقدناها لعدد من المرضى الذين كانت ترعاهم بنفسها. “أكثر ما يحزنني أن هناك مرضى كنت معتادةً على رؤيتهم يومياً ومتابعة صحّتهم وها أنا أعود لأراهم متضررين كثيراً فمنهم من عانى من جروح ومنهم من كسور أما المشهد الذي لن أنساه في حياتي فهو وجه مريضتي الذي كان يغطّيه الدم. فهذه السيّدة كانت سابقاً في العناية المركّزة وكنت أتابع حالتها التي كانت تحسّنت كثيراً في الفترة الأخيرة حتى أنها خرجت من العناية الفائقة وكانت تستعد للذهاب الى منزلها بعد أيّام قليلة، ولكن يوم الانفجار عدت لأراها مضرّجةً بالدماء التي كانت تغطّي وجهها وكانت تعاني من جرح في عنقها والزجاج يغطّي جسمها. لا أستطيع أن أنزع هذه الصورة المؤلمة من رأسي لقد حزنت كثيراً لأن هذه المريضة كانت قد عانت الكثير وبدأت أخيراً تتحسّن ولم يكن ينقصها انفجار ليضاعف آلامها ويعيدها كل هذه الخطوات الى الوراء”.
وتعترف ماريان أنها كانت تضع كل عواطفها وانفعالاتها جانباً يوم الانفجار لتتمكّن من القيام بواجبها وإنقاذ أكبر قدر ممكن من الأرواح وتقول: “الطب ليس مهنتنا وحسب انه رسالتنا وعندما عدنا الى المستشفى لم نكن نعرف ما ينتظرنا ولكن أيا منّا لم يتردّد في تلبية نداء الواجب وهذا أمر بديهي بالنسبة الينا وينبع من ايماننا بهذه المهنة السامية. لم نكن نكترث ما هي رتبتنا أو تخصصنا أو مجال عملنا. كنا كلنا يداً واحدة نتعاون أطباء وممرضين وموظفين في حمل المرضى وأحياناً إغاثتهم على ضوء الهواتف. لم نقبل أن نستسلم ولو للحظة. فنحنا أساساً كنّا في حالة استنفار بسبب معركتنا مع فيروس كورونا حيث تشغل الطواقم الطبية في لبنان الصفوف الأمامية في هذه المعركة القاسية رغم كل الصعاب ورغم أزمة المستلزمات الطبية التي تعرّض حياتنا أحياناً كثيرةً للخطر لأننا نحتكّ مباشرةً مع المرضى ونجد صعوبةً في تأمين كافة مستلزمات الوقاية المطلوبة في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها البلد”.

وماريان علوان لم تواجه أزمات البلد فقط كطبيبة وانما كفانة أيضاً فقبل اتجاهها لمجال الطب كانت قد درست لفترة من الزمن أصول الغناء والعزف على الكمان في الكونسرفاتوار الوطني وكانت منذ طفولتها عضواً في جوقة “فيلوكاليّا” التي تديرها الأخت المُرنّمة مارانا سعد، كما انها واحدة من أعضاء فريق “مزيج” الموسيقي للمحلّن والموزّع الموسيقي وعازف البيانو لوكاس صقر والذي شاركت الى جانبه في عدد من المهرجانات الفنية في لبنان والخارج وتعاونت معه في إطلاق أعمال غنائية لافتة كان آخرها أغنية “أنا رايحة” من كلمات لوكاس صقر وألحانه ومن غناء ماريان التي تختصر في هذه الأغنية كل الوجع اللبناني في عمل يتناول مواضيع الفساد والغلاء والهجرة كما يخاطب مدينة بيروت بعد الانفجار الذي طالها.

بالنسبة الى ماريان “لا تناقض بين الطب والفن بل تكاملٌ تام في الرسالة السامية التي يحملها كل منهما وان اختلفت مضامينها، ففي الأول محاولةٌ لإنقاذ الأرواح وتخفيف الألم وفي الثاني غذاءٌ للروح وجرعات فرح وأمل لكل الموجوعين”.

وفيما يستعيد القطاع الطبي في لبنان عافيته بعد النهوض من أزمته يحاول القطاع الفنّي أيضاً أن يستعيد بعضاً من حيويته في لبنان. وفي الأفق أعمالٌ غنائيةُ جديدة، على ما تعِد ماريان التي تصرّ على تمسّكها بالأمل وبالبلد.

رنا أسطيح

رنا أسطيح

صحافية لبنانية، كتبت في شؤون الفن والمجتمع والثقافة في عدد من الصحف اللبنانية والعربية. قدّمت برامج إذاعية وقامت بإعداد العديد من البرامج الفنية والاجتماعية في أكثر من محطة تلفزيونية.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى