في 4 آب 2020 دوي لا يُنسى في تاريخنا التراجيدي الحديث، دويٌّ دخل لبنان بعده في هوّة لا قرار فيها من التشظي والفجيعة والخذلان. اللحظة التي تصدّع فيها الوطن المنكسر إلى حد التفتت وخلّفت ملحمة أبطالها 219 شهيداً، 6500 جريح، عشرات آلاف المهجرين والمنكوبين، مدينة مدمّرة، خسائر بلغت أربع مليارات دولار، بحسب تقديرات البنك الدولي وجراح عميقة لا قعر لأوجاعها.
بيروت مخطوفة الروح، منذ تلك اللحظة، تُخيم عليها غيمة من رماد ودم ووجوه غابت تطوف في سمائها. أطنان من النيترات في العنبر 12 في مرفأ “ست الدنيا”، أطنان من الفساد المتراكم والإهمال المسكون في منظومة حكمت هذه البلد الصغير، كان انفجارها كفيلًا بنسف كل النكبات والمآسي التي عاشها ليكون تاريخ الرابع من آب يوم النكبة الأعظم.
يومٌ تحوّلَ فيه بلد بأمه وأبيه إلى ضحية على يد قاتل متسلسل، وبات العنف والدمار والموت إرث تتوارثه الأجيال في أوطان حكم عليها التاريخ بالمعاناة الأبدية تحت أيدي المستعمر والمحتل والمتربص والمتوحش والنظام الفاسد.
منذ تلك اللحظة، التي انهار فيها الوطن، بات الهروب من الذكرى مستحيل، ليس يوماً للاحتفال ولا للاستعراض ولا للاستغلال بخطب رنّانة وفصاحة لغوية ولا لكل هذا الهراء الذي لا بدّ سينتهي من دون أي امتنان للقائمين عليه. لا داعي للاستذكار فالندوب على وجه المدينة لا يمكن أن تُنسي يوم الفجيعة والأرواح المحلقة في السماء لا تغيب عن يوميات أهلهم وناسهم. بل أن السؤال الذي يدور في الأذهان هو: كيف استطاعت الحياة أن تمضي برتابتها وبلادتها بعد تلك القيامة، كيف لجدرانها أن تتغاضى عن استسلام الأرواح بينها وتحتها، وكيف لهذا الاسفلت أن ينسى رائحة الدماء التي سالت في ذلك اليوم؟ أسئلة مضرّجة بفلسفة الحياة والموت والاستمرارية والتكاثر، وشعور الناجين بالذنب، أولئك الرافضين لتُحوّل الذكرى إلى لوحة استعراضية أو مسرحية تراجيدية أو معرض فن معاصر ولا مهرجان خطابة.
عام انقضى على الجريمة الكبرى في تاريخ لبنان والعالم، لكن ما هو أخطر أنه لم يُحاسب أحد عليها. العدالة في أسوأ أحوالها في ملف تفجير المرفأ، هذا أمر مألوف لدى اللبنانيين، الذين لم يتذوقوا طعمها يومًا في ظل شبكة مافيات السياسة والمال والفساد وكل الموبقات.
365 يوماً لم تخرج فيها معلومة ثابتة ولم يقرأ أهل الفجيعة نتائج لتحقيق ولم يُحاكم مسؤول واحد، والناجون معلّقون برعشة لحظة العصف الدراماتيكي والغبار الملوّن في سماء المدينة وأعتم حياتهم إلى يوم القيامة.
العدالة ممنوعة في بلاد سمائها مفتوحة على القهر، ومسار العدالة المنتظرة، تعثّر بتدخلات سياسية وطائفية، رفعت خلالها راية “الحصانات” التي لا تُمَس لأي رئيس أو وزير أو نائب أو مسؤول أمني أو زعيم حزبي. الحصانة في وجه المحاسبة، هذه هي المعادلة خلال الأشهر التي تلت التفجير، حتى المساءلة بقيت ممنوعة عن المسؤولين السياسيين والأمنيين، الذين ثبت أنهم كانوا على علم بشحنة نيترات الأمونيوم، المخزنة في مرفأ بيروت منذ عام 2013 قبل أن يتسبب حريق بانفجارها، وانعدم لديهم حسّ المسؤولية للمبادرة على تجنيب البلاد الكارثة.
بعد عام على كابوس مفجع في دولة تتداعى أركانها وتنساق نحو الانهيار السريع، يحيي اللبنانيون الذكرى، وبخلاف كل ما يعتري الاحتفالات من خزعبلات ورداءة، فلا شيء يعلو فوق مطلب أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت، بتبيان الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن إعدام حيوات مئات الشهداء وحقوق الجرحى المرتمين على أسرّة الألم والعجز.
ماذا أنجز القضاء حتى اليوم بمئات الملفات وآلاف المعلومات التي تنشر هنا وهناك في لبنان والعالم للخروج بحقيقة كيف أتت هذه المواد الخطرة ولصالح من ومن غطى ومن ساعد ومن أهمل وكيف انفجرت؟
آلاف الأسئلة يرد عليها اليوم من يعلمون لماماً حول التحقيق المحاط بالسرّية بأن قاضي التحقيق العدلي في جريمة المرفأ القاضي طارق البيطار أنجز تحقيقاته القضائية ويملك تصوّراً لكيفية حصول التفجير والمراحل التي مرّ فيها والأشخاص المتورّطين بالإهمال الوظيفي والإداري من وزراء وقضاة وكبار الموظفين الإداريين والعسكريين والأمنيين، لكنه اصطدم بالحصانات النيابية والوزارية ما يعرقل التحقيق واكتمال الصورة وإعلان النتائج. وهنا تكمن العقدة في البلد. فالأسماء كثيرة والإعتراضات عليها أكثر. وفي المعلومات أن البيطار لديه أسماء جديدة لشخصيات بارزة سيتم الادعاء عليها قريبًا.
منذ يومين أمهل إبراهيم حطيط، الناطق الرسمي باسم أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت وشقيق الشهيد ثروت حطيط، السلطة اللبنانية مدة 30 ساعة لرفع الحصانات، واصفاً إياها بسلطة الفساد والمحاصصة بحق الشهداء اللذين سقطوا في 4 آب المشؤوم.
سدّ الحصانات، وعد رئيس مجلس النواب نبيه بري بكسره!. ففي بيان أصدره في ذكرى الرابع من آب شّدّد “مجددًا، من موقعنا السياسي والتشريعي لن نرضى بأقل من العدالة والاقتصاص من المتورطين بأي موقع كانوا ولأي جهة انتموا، والمدخل الى ذلك معرفة الجهة التي أدخلت نيترات الموت الى عاصمتنا بيروت، والاسباب الكامنة وراء الإنفجار”. وتابع “مرارًا وتكرارًا وحتى انقطاع النفس لا حصانة ولا حماية ولا غطاء إلّا للشهداء وللقانون والدستور”.
كيف يتم تجسيد هذا الوعد؟ بحسب معلومات مصادر مطلعة فإنّ بري سيتجنب أي محاولات لاستثمار الذكرى بالتصعيد حول مسألة استدعاء النواب إلى التحقيق ويُعطل مفاعيلها من خلال الدعوة إلى جلسة عامة للمجلس النيابي من أجل التصويت ومناقشة العريضة النيابية التي وقّعها نواب بُغية حَصر محاكمة النواب أمام محكمة الوزراء والرؤساء.
والعريضة في مضمونها اتهامية، إذ أنّ التصويت عليها بثلثي مجلس النواب يعني أن النواب المدّعى عليهم قضائيًا سيتم التحقيق معهم أمام المحكمة الخاصة، أما إذا لم يصوّت الثلثين على العريضة فسينتهي المسار القانوني.
الجلسة المتوقع الدعوة لعقدها منتصف هذا الشهر، إذا لم تكن لرفع الحصانات والامتيازات عن كل المسؤولين عبر تعليق المواد الدستورية المتعلقة بها فيما يخص هذه الجريمة فهي لن تكون الطريق الصحيح لوضع الجميع من دون استثناء تحت سقف القضاء العدلي، بحسب مصادر نيابية.
365 يوماً على حدوث أقوى الإنفجارات غير النووية التي شهدها العالم، ولا يزال الشعب اللبناني ينتظر العدالة التي وَعَد بها صنّاع القرار في بلاد مضرّج بسياسة الإفلات من العقاب والتحقيق الفعّال والمستقل والشفاف يتعثّر في ظل غياب قضاء قادر على وضع حد للتدخلات السياسية ويمنح العدالة للضحايا ويحقق السلام لعائلاتهم.
رانيا برو