المسافة بين منطقة الدورة والجميزة طويلة جداً. ثلاثة كيلومترات ليست بالشيء الكثير لكن طريق الموت وعر وطويل.
أكثر من ثلاثة أسابيع مرّت على انفجار مرفأ بيروت ولم يتغيّر في المشهد سوى أنّ الزجاج تلملم، وبقيت الأبواب الحديدية المشلعة “للفورم دي بيروت” شاهدة على هول الصدع الذي حلّ بالمدينة الساكنة على البحر.
يمينك البحر أو موج النكبة الذي فاض على منطقة المدور التي تعرف باسم الكرنتينا، هذه المنطقة التي يعرفها كل لبناني بأنها منطقة الفقر والإهمال حيث المسلخ ومجمع النفايات ومستشفى حكومي سمعنا عنه مؤخراً الكثير، عندما تحول الى محجر لمرضى الكورونا.
رائحة المنطقة تدل على بؤسها وحرمانها. هنا يستوطن تاريخ خطوط التماس الذي كان يشق المدينة شطرين شرقية وغربية، التحمت المدينة لكن الكرنتينا بقيت الجزء النافر في وطن معزول عن كل اهتمام.
الهدم سيد المشهد، على مدى البصر مكاتب معلّقة بالفراغ تركها موظفوها جثة تحكي موت اللقمة وانسداد شريان الحياة.
مبانٍ مهدّمة بالكامل كانت تشغلها اهم الشركات ودور الأزياء ومرابع السهر لم يبقَ منها سوى ظلال الموت، والبواخر في المقابل تشق طريقها لترسو في ميناء الفاجعة، والناس يصطفون بسيارتهم على الرصيف المحاز للمرفأ يتفرّجون على هول مصابهم يؤرشفون فاجعتهم.
على الطريق باتجاه الصيفي يطالعك في البعيد ذاك المبنى الضخم الذي بدا كأشلاء سابحة في الفضاء، إنّه مبنى شركة الكهرباء الذي شيّد عام 1964 ، هذا المبنى الذي ينبأ عن دولة مرّت يوما ما وكانت تريد ان تؤسس لوطن مضيء، لكن العتمة سادت قبل الانفجار الكبير وغرقت المدينة والوطن في عتمة الزمن، وأتى الامونيوم ليقضي على الشعاع الأخير ويطفئ محرّكات النهوض كلها.
كلما خطوت خطوة تجد الصمت غائراً في احشائك. يسكنك موت مغلف بحياة مرة، تشعر بها كلما مسحت دمعة تسقط سهواً مدركاً أنّ الخراب يطالك في روحك وكيانك، وليس فقط في المباني والشوارع التي تجوبها.
خراب من الصعب أن نرمّمه أو نشفى منه. فهذا الزلزال ما زال مطبوعاً دويه في ارواحنا، صوته المفزع يقلق نومنا ويعيدنا الى اصوات امهات انتظرن ابناءهن لينهضوا من تحت الردم ولم يستطيعوا.
هنا مبنى جريدة النهار الواقع في ساحة الشهداء، هذا المعلم الذي كان يشي بكل ما هو حديث لعمر جريدة تخطى 84 عاماً، والتي تشكل بوابتها مدخلاً الى ارث عريق في حياة الاعلام والصحافة، لم يبق منها سوى كيان مهزوز. تستذكر ابطالها واقلامها من سمير قصير الى جبران تويني و15 موظفاً أصيبوا في اللحظة المفقودة من مدينة نلتحم بها اكثر كلما بلعها الموت.
المكان فارغ في ساحة الشهداء سوى من صدى اللا شيء ولهاث الخوف . هذا الخفوت في اكبر ساحات لبنان التي لها دلالتها وتاريخها، حيث اعدم فيها الوالي العثماني احرار لبنان، وجمعت مليون متظاهر في يوم ما وبقيت ساحة مفتوحة للاحتجاجات، ومكانا يجمع اصوات من أزهقتهم السلطة بسطوتها وفسادها، ومحجاً يمكن أن يجعل التغيير ممكناً لوطن متهالك. ساحة خالية الا من نصب شهدائها الساهر على فكرة رفض الخنوع والذل.
قلب المدينة الذي كان ينبض حياة وضجيجاً يعمّه الصمت، سوى من مشاهد صاخبة الخراب.
نركن السيّارة على رصيف منطقة الصيفي هذه المنطقة المغترّة بعراقتها يأكلها غبار العصف. تشد الخطوات سيرها نحو الجميزة ويطالعك هواء ساخن بعبق رائحة الموت الشارع، مقفل برجال قوى الأمن، والمكان تسوده العزلة القاتلة.
قبل ايام كنا نتحايل لنلفّ حول هذا الشارع حتى لا نقع فريسة ضوضائه، اليوم لم يعد فيه من يخبر، حتى سكانه رحلوا لا نعلم الى اين.
فقط حراس قلائل بقوا من رجال امن او عمال يحرسون ابنية النكبة.
الشارع نظيف كنسته مكانس الشباب من كل لبنان، أبوا ان تموت مدينتهم بشظايا الزجاج. الحق يقال الزجاج اختفى لكن المكان منخور بسوس الموت.
ولا شيء يشي بالحياة . هناك ابنية متصدعة واخرى مهدمة بالكامل واخرى صامدة تستعد لجولة جديدة بالحياة والقيامة.
في وسط الجميزة باتجاه مار مخايل تلتقي بشباب عراقيين يفرشون الشارع بالمؤن والطعام الجاهز، ولوحة كتب عليها تقدمة من الشعب العراقي الى اخي اللبناني.
تلفك الف حسرة وتشيح بنظرك عن حال الفقر الذي وقعنا به، ولكن الانكار لا يزيل البؤرة التي نعيش فيها.
أم مع أطفالهاـ يقتربون من الشباب،يباشرونهم بالسلام وتأخذ الأم كل ما تحتاجه من طعام ومؤن.
في خطواتك الثقيلة بالشارع المنكوب هنا والذي هو نموذج مصغر من شوارع كثيرة حلت ببيروت،تجد ابنية عريقة سقطت ومطاعم كان روادها بالامس يحتفلون، ما زالت طاولتها المكسرة وكراسيها الممزقة والمتطايرة شاهدة ان الحياة كانت هنا منذ قرون وليس ايام.
يخيفك هذا السكون المطبق، تريد ان تواسي احدهم، فلا تجد سوى عمال قلائل يرفعون الردم في بعض الابنية المتضررة.
تتساءل لماذا هذا الغياب؟ هل دخلنا مرحلة يلي راح راح والله بعوض.
نتحدث الى صاحب مطعم “واك بوكس”، الرجل الوحيد الذي كان يكسر صمت شارع الجميزة برفقته بعض العمال.
ظننا للوهلة الاولى انه يعيد ترميم مطعمه ليخبرنا بأنه يأخذ المكيفات من المحل فحسب، ولا يفكر ابدا بإعادة تشييد المطعم ان لم تغطي شركة التأمين كامل الاضرار،شارحاً لنا بأن شركات التأمين تعطي “من الجمل اذنه”، وبالليرة اللبنانية التي لا تفك طيراً من خيطه ولا تبني حجرا واحدا.
وبأسى يقول ” ذهب جنى العمر كله، ولم نعد قادرين على القيامة من الجديد ان لم نحظ بالمساعدة”.
المشوار كان طويلا باتجاه مارمخايل، فما ان تصل الى ما يسمى بطلعة الخارجية، حتى تجد ان قوائم المدينة كلها قطعت. الرائحة الكريهة التي ترافقك في تلك البقعة تشتد على الانفاس حد الاختناق، فلا تقوى على اكمال سيرك وامامك مد من الخراب والابنية الواقعة بالكامل.
نلتقي برجل مسن، العم جان يجر عربة اطفال وظهره المحدودب يخبرك ان العمر بات خلفه، يسأل عن مساعدات واطعمة ويقول “انا مقطوع من شجرة. بيتي وقع وعمري راح، وبعد ان كنا اسياداً بتنا فقراء على باب الله نشحذ. بقيت على قيد الحياة بأعجوبة”.
المكان مخيف بجوار مستشفى الوردية حيث الشارع الجميل بأجمل وابهى المطاعم والبنوك، كلها باتت حطاما لم يعد هناك من يخبر ماذا حلّ مساء 4 آب. رجل ستيني يجلس على كرسي مكسور على قارعة الطريق امام محله، يقول “انا احرس الموت واحرس الخراب واحرس جدراناً متصدعة”.
نلتقي بعطا عبد الملك، الرجل الوحيد الصامد في تلك البقعة. نسأله عن هذه الرائحة الكريهة، يقول انها رائحة الجثث والموت “انا نفسي انتشلت ثماني جثث”. يدعونا الى بيته العتيق على فم شارع الجميزة خلف الشجرة الشهيرة التي اعطت الشارع اسمه، ويضيف ان منزله بقي صامدا بالصدفة.
في بيته المهشم نشرب القهوة التي أعدّتها زوجته نيكول والضربات والجروح والكدمات ما زالت ظاهرة على جسدها. تقول نيكول “لولا العدرة لكنا اموات هي التي حرست البيت واهله”.
يحكي لنا عطا قصة الانفجار وهوله، وكيف نجوا من الموت، وكيف نظف بيته بمساعدة ابنائه الشباب.
ابنه الذي كان يريد الزواج والسكن في الطابق العلوي للبناء بعد ان فرشه وجهزه، يقول “تدمر المنزل ومعه حياة ابني”.
يعرفنا عطا على جارته العجوز التي تقطن في اخر طابق وتخبرنا ان عصف الانفجار قذفها بعيدا والقدر القدير ابقاها على قيد الحياة في منزل تهدم تقريبا بالكامل . وعندما سألتها الا تخافين ان تعيشي فوق السطوح في بيت بلا شبابيك وبلا زجاج. قالت السيدة انجيل بلكنتها الارمنية: الى اين سأذهب ؟ الله يبارك بالشباب. هم دوما معي ولا يتركونني ابدا. قاصدة بذلك الشباب المتطوعين وشباب الجمعيات الخيرية . وتضيف وعدتنا الدولة ان التصليح سيكون قبل الشتاء فقد اتى رجال عسكر واقاموا بكشف وصوروا الخراب ووعدونا بالتصليح السريع .
يجزم عطا الذي يعيش منذ دهر في شارع الجميزة، وشاهد على نموه وصخبه وحياته وموته، بأنّه لم يعد يسكن هذه البيوت أحد. أهلها هجّروها ورحلوا، إما الى بيوت لهم في الجبل او انهم يسكنون عند اقربائهم . فهذه البيوت وإن كانت لا تزال واقفة، الا انها لم تعد صالحة للسكن. يقول “صحيح نحن نجونا الا اننا فعليا لم ننج، فالموت يسكن في داخلنا ونحن على قيد الحياة.”.
كمال طنوس