غادة عون والقضاء المشظى في بلد الانهيارات
مشهد تكسّر أجنحة القضاء اللبناني بالأمس هي انعكاس لمرآة الواقع اللبناني، ما حدث للجسم القضائي لا يُبشر بأمل قيامة لبنان تماماً كما كل مؤشرات الوقائع اللبنانية المفتوحة على الهزل والعبث واللاقرار.
صورة القضاء في لبنان تتقهقر بشكل مريع ومؤسف والتدمير الممنهج لمؤسسات وسلطات الدولة مستمر وصمتُ الضحايا مُريب. وليس ما جرى بالأمس من نزع ملف التحقيقات التي تُجريها النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون، بعد أن أصدر النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات قراراً قضى بتعديل توزيع الأعمال لدى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، وحصرها بثلاثة محامين عامين فقط، من دون أن يلحظ القرار اسم عون. ولا مشهد اقتحام القاضية، التي لا تشبه أحداً، مكاتب شركة ميشال مكتف للصرافة ونقل الأموال، هذا ليس سوى صورة عن التشظي الذي أصاب كل شيء في وطن النجوم اللبناني.
الرواية بحسب مطّلعين، أنه بالرغم من صدور قرار عويدات بالحد من صلاحيات مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون، رفضت الأخيرة تبلغ هذا القرار مخالفةً قرار مدعي عام التمييز.
وبحسب مصادر متابعة فإن القاضية عون “استغلت” سلطتها واتفقت مع جمعية “متحدون” على الدخول عنوة إلى شركة مكتف للصيرفة. ورابطت فيها لساعات برفقة عناصر من أمن الدولة وناشطين من في منطقة عوكر. وطالبت محامي الشركة الذي كان موجوداً فيها ألكسندر نجّار بتزويدها “داتا” الشركة من بيانات وملفات. لكن نجّار رفض ذلك لعلمه بصدور قرار قضى بتعديل توزيع الأعمال لدى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، وحصرها بثلاثة محامين عامين فقط، من دون أن يلحظ القرار اسم عون. ما يعني أنّها باتت بلا صلاحيات في هذا الملفّ. وبالتالي فقد انتقل ملفّ الصيرفة إلى يد القاضي سامر ليشع، ومعه كلّ الملفات المالية، كمحامٍ عام في جبل لبنان.
والقاضية عون وصلت عند الساعة الواحدة إلى مكاتب شركة مكتّف للصيرفة في عوكر لإكمال التحقيق رغم صدور قرار بكف يدها عن هذه الملفات من قبل القاضي غسان عويدات الذي كلّف قاض آخر.
وأفادت مصادر متابعة أن مرجعاً قضائياً كبيراً طلب من المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا سحب العناصر باعتبار عون بلا صلاحيات في الملفّ. وهكذا كان. فبقيت عون هي ومرافقَيها، وبضع ناشطين.
هل خالفت غادة عون القوانين؟ مدعي عام التحقيق السابق القاضي حاتم ماضي، يشير إلى أنّ “سلطة النائب العام التمييزي رئاسية على جميع المدّعين العامّين العاملين بالنيابات العامة، وبموجب هذه السلطة يمكنه توجيه سير الدعوى العامّة إمّا بتعليلات خطيّة أو شفويّة، وعلى المدعي العام المعني بالتبليغ التوقّف فورًا عن مزاولة أعماله؛ وكذلك الضابطة العدلية التابعة له”.
الأحداث المؤسفة للقضاء والجسم القضائي وللعدالة في لبنان، ليست وليدة اليوم وانعدام الثقة والتعاون المفقود بين المؤسسات القضائية مرده اللبوس السياسي لأفراده الموزعين بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي والأحزاب اللبنانية الموزعة على مساحة الـ 10452 كلم مربع.
ومنذ أسبوعين، وفيما احتُسِب في خانة التضييق على عون، غردت النائبة العامة الإستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون عبر صفحتها على “تويتر”، ناعيةً القضاء والقانون.
وكتبت عون “أنا أنعي اليكم دولة القانون في بلدي الحبيب لبنان، لأنه منذ الآن إذا تجرأ أي قاضٍ ولاحق النافذين وأصحاب النفوذ سيصبح مدعى عليه، بدل أن يتمكن من القيام بأبسط موجباته المهنية”. وتابعت “فيا زملائي ما تعذبوا حالكن فيكن تلاحقوا من يسرق خبز أو قارورة غاز لكن لن تستطيعوا ملاحقة من يسرق بلد بأكمله”.
ومن المعلوم، أن الهجوم على القاضية غادة عون، لم يتوقف منذ لحظة مباشرتها التحقيقات بملف السطو على أموال اللبنانيين وتهريبها للخارج واستدعائها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وادعائها على رئيس مجلس إدارة مصرف “سوسيتيه جنرال” SGBL أنطوان الصحناوي. وطلب تنحيتها عن الملف.
وفيما تردد عن صغوط مورست من جهات سياسية لوقف قرار البحث والتحري عن الصحناوي، أُدرج كلامها في هذا الإطار وأيضاً في ملفات أخرى بين يديها تُعرضها للتهديد، من بينها التحقيق مع حاكم مصرف لبنان، الذي أبلغ القادة السياسيين أن استمرار هذه التحقيقات ستضرب النظام المالي والمصرفي برمتّه ويجب أن يتوقف!.
وفي مسألة عون وتحقيقاتها في الملف المالي، عُلِمَ أنّ مرجعاً قضائياً زار الرئيس عون قبل أيام، ليشرح له تجاوزات عون، وصعوبة التعامل معها في ملفات عدّة فرد الرئيس بأنه ينبغي اتباع القانون والأصول، دون أن يزيد على ذلك..
“كثر يكرهون غادة عون وأسلوبها والبعض يُبغض تجرؤها على الأقوياء والاثرياء. لكن على هؤلاء ومن كان لديه أي قدرة على متابعة أي من ملفات الفساد التي فتحتها عون أو فتح ملفات بنفس الاهمية أن يرجمها الآن بحجر”، هذا ما يقوله المحامي نزار صاغية وآخرون كُثر من المتحمسين لفتح ملفات الفساد في لبنان.
وعن احتمال تطبيق المادة ٩٥ بحق القاضية عون وهي مادة تسمح للمجلس بعزل أي قاض من دون تمكينه من الدفاع عن نفسه. يرى مؤسس “المفكرة القانونية” نزار صاغية أنها “مادة شديدة الخطورة ومجرد إثارتها في هذا الظرف ضد عون إنما يعبر عن مدى قوة اللوبيات المنزعجة من إصرار عون على ملاحقة بعض رموزها”.
تنتقد القاضية غادة عون على سلوكها الفظ وأحياناً فوضويتها ويتم التشكيك بخلفيتها السياسية ببعض الملفات، لكن ثمة إجماع على عنادها في التصدي لملفات الفساد وعلى عدم تورطها في أمور خارجة عن القانون.
لكن هذا الإجماع يخرقه استياء داخل أجهزة القضاء نفسها فهي إلى هذا اليوم رفعت ضدها 6 دعاوى جزائية وهي الأولى بحق قاضٍ، ولم يسبق في تاريخ القضاء اللبناني أن قُدّمت 28 شكوى في التفتيش القضائي ضدّ قاضٍ واحد. ويُسجّل عليها سلوكها في رفض المثول أمام قاضٍ آخر، أو الإجابة على أسئلة “التفتيش” أو الردّ على هذه الدعاوى.
وللكباش بين النائب العام في جبل لبنان القاضية غادة عون والنائب العام التمييزي غسان عويدات قصص أخرى بدأت منذ سنوات ربما منذ العام 2019. وبلغ الخلاف بينهما حدّاً غير مسبوق، اتخذ عويدات على أساسه تدابير تمّ تعميمها على الأجهزة الأمنية للابتعاد عون وعدم مراسلتها وإصدار عقوبة مسلكية في حقها. فيما تشكو عون بشكل دائم من أن التعاميم التي يُصدرها مدّعي عام التمييز تؤثر على عملها في متابعة الملفات بل ترى أنها تُكبّلها وتشلّها عن اتخاذ القرارات المناسبة في قضايا هامة. بدوره يعتبر عويدات أن عون هي “خزّان” المخالفات القانونية وتجاوز الصلاحيات وعدم اتباع السياسة الجنائية.
المواقف المنددة لما جرى مع القاضية عون لم تكن سوى عونية، فالقاضية محسوبة على رئيس الجمهورية سواء أخطأت أم أصابت فإنها ستجد التيار الوطني الحر يقف إلى جانبها. النائب سليم عون قال “لأننا مع الحقيقة التي تريد أن تكشفها، حقيقة العمليات المالية والمضاربات التي أدت إلى إنهيار الليرة اللبنانية، حقيقة قيمتها ومن قام بها وإستفاد منها، حقيقة من هرب بنتيجتها العملات الصعبة إلى الخارج. معها لكفايتها وجرأتها وأخلاقها في مواجهة منظومة الفساد والإفساد”. وكذلك تمنى عضو تكتل لبنان القوي النائب روجيه عازار على القيّمين على القضاء دعم القضاة الذين يفتحون بجرأة ملفات فساد وليس إبعادهم عن مهامهم. فالقضاء هو أملنا في معركة مكافحة الفساد، وأي ضربة لهذا الأمل يشكّل انتكاسة حقيقية للمواطنين ولمسيرة الاصلاح”.
القضاء هو مؤسسة الشعب الأولى، التي يأوي إليها الأشخاص لحفظ إنسانيتهم ورعاية حقوقهم، وصون كرامتهم، وهي التي تُشعرهم بهيبة الدولة، التي يعيشون في كنفها، وبالتالي تجعلهم يتمسكون بمواطنتهم الحقيقية، وتدفعهم للتمسك بوطنهم ووطنيّتهم.
لكن هذه الهيبة المكسورة، فهل سيتم ترميمها في الاجتماع الطارئ الذي دعت إليه وزيرة العدل ماري كلود نجم السبت؟
رانيا برو