في أوجّ التراقص على فوهة بركان الأزمة اللبنانية بين أصحاب القرار السياسي عند نقطة مفصلية في تاريخ المنطقة ككل، وبعد حفلة من الجنون المتبادل واتهمات ودعوات متبادلة للاعتذار والاستقالة، خرج الرئيس المكلّف سعد الحريري، من اجتماعه مع رئيس الجمهورية عقب مشاورات مرتبطة بالتأليف الحكومي، ليعلن تمديد الفرصة حتى نهار الإثنين لمزيد من النقاش.
والملفت ومن خارج سياق اللقاء وهدفه واهتماماته، ذكر الحريري سعر صرف الليرة وصندوق النقد الدولي قائلاً: “الهدف الأساسي من الحكومة هو وقف الإنهيار مع صندوق النقد الدولي، وإعادة الثقة لدى المجتمع الدولي؛ مضيفاً، الوضع الاقتصادي لا يبرّر هذا الارتفاع لسعر الدولار إنّما غياب الأفق، والهدف الأساسي من هذه الحكومة هو وقف كل هذا الانهيار لليرة”. وهي رسائل متعددة الاتجاهات يؤكد من خلالها الرئيس المكلّف على أنّ تحقيق الاستقرار النقدي والحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية بيده، وهو القادر على اتخاذ القرارات المصيرية المرتبطة بشروط صندوق النقد الدولي لتوفير الدعم اللازم للخروج من الأزمة. وما هي إلا ساعات محدودة وبدأ سعر صرف الليرة مقابل الدولار يتحسّن ليُعيد إلى أذهاننا المشهدية السياسية في العام 1992 وأيادي بنك البحر المتوسط في تدهور سعر صرف الليرة وخلفياتها.
صندوق النقد الدولي: أنا لها
وفي موضوع صندوق النقد الدولي، وبعد 16 جولة مفاوضات فاشلة بينه وبين الوفد اللبناني المفاوض، وفي ظلّ التخبط الحاصل في الخطط والمقاربات، لم يكن لأحد من المسؤولين السياسيين أن يتجرأ على إعلان تطبيق الشروط القاسية التي يفرضها الصندوق لتوفير الدعم المطلوب. ولكن الرئيس المكلّف وقبل تكليفه، خلال حلقة تلفزيونية ضمن برنامج صار الوقت في 8 تشرين أول 2020 انبرى ليأخذ هذا الموضوع على عاتقه بشرط موافقة كل القوى السياسية، بالقول:”سأقوم بجولة اتصالات للتأكد من التزام الجميع على ورقة اصلاحات صندوق النقد وحكومة من الأخصائيين وإذا وافق الجميع فأنا لن أقفل الباب”، وثم تأكيد على هذا الالتزام من قصر بعبدا.
شروط صندوق النقد مقبولة شعبياً
في قراءة شروط النقد الدولي نجد أنها قد طُبقت بحكم الواقع وبفعل الأزمة، ولا ينقصها سوى تشريعها وإقرارها من قبل السلطات الرسمية المختصة، وهي لن تلقى هذا الكمّ الضخم من الاحتجاجات الشعبية التي كان يُخشى منها، لأن الأزمة والانهيار الكارثي جعلا منها مقبولة طالما هي مقرونة بانفراجات للأزمة فيما سيقدم صندوق النقد الدعم المطلوب للخروج منها، كباب وحيد للخروج من الانهيار.
وإذا كان تحرير سعر الصرف من أولى شروط صندوق النقد الدولي، فإنّ هذا الأمر أصبح في حكم التاريخ مع هذا التعدد في أسعار الصرف ومع تعاميم مصرف لبنان التي تؤكد على ذلك. وإن رفع الدعم عن السلع الأساسية ليس قراراً ذاتياً نابعاً من قناعة اقتصادية ومالية علمية، إنما سيفرضه الوضع المالي مع جفاف قدرة الاحتياطي في مصرف لبنان على تمويلها، فسعر صحيفة البنزين أوكتان 95 ازداد من 24700 في 7 تشرين أول 2020 إلى 38900 في 17 آذار 2021 بزيادة نسبتها 57% ووقع الناس في المحظور هذا ولم يُرفع الدعم.
وقد فرضت الأزمة وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين التخفيض من حجم استهلاكهم مما انعكس إيجاباً على الميزان التجاري بسبب تراجع الاستيراد بنسبة تفوق 50%. ولاستقطاب الدولارات الطازجة لانعاش الاقتصاد والمالية العامة، فإنّ الاستثمارات الأجنبية هي حاجة اقتصادية وبفعلها سيغزو القطاع الخاص المنشآت والمؤسسات العامة لتصبح التشركة بين القطاعين العام والخاص حاجة بل وضرورة، فيتقلّص حجم القطاع العام ودوره الاقتصادي.
إنّ صندوق النقد الدولي هو الملاذ الأخير ليس لإخراج لبنان من أزمته فحسب، بل لإعادة تعويم الحريرية السياسية وإثبات أنها قادرة بحكم علاقاتها الدولية وموقعها المالي من استنهاض الاقتصاد والمالية العامة عقب الحروب والأزمات. وما زالت السلطات السياسية تراهن على حاجات الناس ومصائرهم لضمان توليهم سدّة السلطات والحكم، والعقلية إلى الآن لم تخرج من عباءة الارتهان، وستدور الدوائر من جديد وستتكرّر نفس الأحداث ونفس الانهيارات وإن اختلف اللاعبون على المسرح لأن النهج باقٍ كما هو.
د. أيمن عمر