مجتمع

سرير حمد حسن

ثمة بلد أنفق نحو مئة مليار دولار على البنية التحتية دون أن يكون فيه اليوم أوتوستراد واحد أو شبكة كهرباء أو شبكة مياه أو شبكة مجارير أو نفق أو جسر مشاة واحد مطابق للمواصفات. بلد أُنفق فيه أكثر من مليار دولار على المستشفيات الحكومية فيما لا تزال قدرة هذه المستشفيات على استقبال المرضى متواضعة جداً.

بلد تهدّم مختبره المركزي لأسباب أمنية بحكم قربه من مقر إقامة الرئيس نبيه بري. بلد تحتكر شركتان استيراد وتوزيع أكثر من 60 بالمئة من أدويته، فيما تشتري وزارة الصحة أدوية الأمراض المستعصية وغيرها بسعر أعلى من السعر الذي تأخذه مؤسسات لبنانية أخرى رغم أنها تشتري كمية أقل. بلد توزّع فيه وزارة الصحة مبالغ مالية سنوية هائلة على المستشفيات دون أية آلية جدية أو موثوقة للتدقيق. دولة تسرح وتمرح فيها شركات التأمين دون أي انتقاد جديّ أو تدقيق في آليات عملها؛ بلد يعاني فيه المصابون بمرض السرطان كل أنواع وأشكال الإذلال ليضمنوا تأمين ما يحتاجون من دواء قبل الموعد المحدّد لجلسة العلاج. بلد يعشعش الفساد في تفاصيل قطاعه الصحي بجميع مؤسساته الخاصة والعامة.

هذا البلد نفسه الذي لا تبالي نخبه بكل ما سبق، يستنفر 48 ساعة للسؤال كيف تمكّن وزير صحته من إيجاد سرير للعلاج من مرض كورونا في أحد المستشفيات؛ وهي يمكن أن تكون مجرد حادثة عابرة أخرى طبعاً لو كانت التعليقات السخيفة كأصحابها جزءاً من حملة شعبية تقودها النخب من أجل تأمين سرير لكل مريض، لكن الرجوع على صفحات النخب أسبوعاً أو أكثر إلى الخلف يبيّن أنهم لم يستنفروا للمطالبة بإيجاد أسرة للمصابين الذين يحتاجون إلى سرير في مستشفى ولم يجدوه؛ لم يرفعوا الصوت ضد التمادي الرسمي في عدم الاستفادة من الوقت المستقطع الطويل لتجهيز المستشفيات وتأمين أكبر قدر ممكن من الأسرة وماكينات الإنعاش. هم لم يكونوا هنا منذ أكثر من صوت؛ لم يُسمع لهم صوت في هذه المواضيع الطارئة والأساسية جداً بالنسبة للمواطنين، ثم يرون الوزير يتلقى العلاج فيهرعون للتذاكي؛ ليس فقط أولئك المغردين الذين يستهوون تحويل كل شيء إلى مهزلة إنّما نخب حقيقية؛ أشخاص لهم مكانتهم الثقافية المفترضة وإرثهم النضالي.

وزير الصحة حمد حسن! أقلّ ما يمكن قوله عنه أمس واليوم هو إنّه بدأ بشكل صحيح لكن التفاعل الشعبي الإيجابي معه في المرحلة الأولى كان له أثره السلبيّ عليه بدل أن يكون الأثر إيجابيّاً، فهو يتحمل مسؤولية التجاذب غير المقبول بين الوزارات التي فشلت في توحيد جهودها لمواجهة الوباء. وهو لم يفعل ما يلزم لحماية القرارات المختلفة بالإقفال العام أو الإلتزام بالكمامات. وهو لم يفعل ما يلزم حيث يجب لإنصاف المستشفيات والعاملين في الخطوط الأمامية. وهو يتفرّج على نسبة إشغال أقل من 20 بالمئة في المستشفيات الحكومية رغم كل ما أُنفق عليها؛ فيما بعض المصابين لا يجدون أسرّة. وهو تأخر كثيراً في اتخاذ الخطوات اللازمة لنقل المستشفيات الميدانية إلى جوار المستشفيات الجامعية وتجهيزها لاستقبال مرضى الموجة الثانية.

حتى في التنسيق الجدي بين الوزارات من جهة ومع الصليب الأحمر اللبناني والمستشفيات ثمة مآخذ كبيرة وكثيرة.  حتى على صعيد قاعدة البيانات ووحدة التنسيق مع البلديات؛ وهو مطالب بأن يشرح الكثير فيما خص مراكز الرعاية الصحية المقفلة فيما الناس تحوّل سياراتها إلى مراكز استشفاء، كما هو مطالب بالتوقف عن الظهور دائماً بمظهر المسيطر على كل شيء فيما هو لا يسيطر على أي شيء.

لكن هذا كله شيء، وإيجاد الوزير سرير في مستشفى شيء آخر؛ هذا الشيء الآخر الذي تنزلق إليه النخبة أيضاً معيب وممل ومضرّ في تسخيفه لأساس المشكلة وتوقفه عند قشور سخيفة جداً. ولا يتعلّق الموضوع بالحادثة الخاصة بحمد حسن فقط، إنّما بمجموع ما يحيط بنا من قضايا حيث تبرز نزعة رهيبة لشغل الناس عن أساس المشكلة – كل مشكلة – بتفاصيل ثانوية سخيفة صغيرة، لكنها تلقى اهتماماً شعبياً كبيراً. وإذا كان دور النخب التقليدي هو قيادة الرأي العام من المهم إلى الأهم، فإنّ نخبنا العظيمة تعيش اللحظة الشعبوية وتنشغل عن المهم، والأهم بتقديم ما يطلبه المستمعون.

غسان سعود

 

غسان سعود

كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى