الهدر في الصرف الصحي: 1.5 مليار دولار ذهبت مع المجارير
يعاني لبنان منذ سنوات طوال من مشاكل التلوّث التي أرهقت مواطنيه وسكّانه، وبات يتكبّد الأموال الطائلة على معالجات فاشلة، كمّا بات يتكلّف استتباعًا الفاتورة الاستشفائية الباهظة الناتجة عن البيئة الملوّثة والمسمّمة.
يعد تلوّث المياه في لبنان من أكثر أنواع التلوث انتشارًا، نظرًا لشبكات الصرف الصحي المتهالكة، ولانتشار الحفر الصحّية في البلدات، التي لم تنفَّذ فيها شبكات الصّرف الصّحي، تحت حجّة التضاريس الجغرافية، وما يترتب على كلتا الحالتين من تسربٍ إلى المياه الجوفية وتلويثها، كما تلوِّث مياه الشفة، ويترافق هذا مع غياب المعالجات العلمية كالبلدان المتطوّرة، التي تعيد تكرير المياه المبتذلة ومياه الصّرف الصّحي لتعيد استعمالها في الاستخدامات المنزلية، وفي بلدان أخرى تُستعمل أيضًا للشرب، كدليلٍ على مدى دقّة عملية التكرير.
لكنّ الحكومات المتعاقبة لم تقف مكتوفة الأيدي حيال هذا التلوث الذي طال بحر لبنان وأنهاره العذبة، والتي تحوّلت بفعل مياه الصرف الصحي إلى أنهارٍ موبوءة، فضلًا عن تلوّث مياه البحر بمواد شديدة الخطورة كالزئبق وهذا ما أثبتته دراسات عدّة أقيمت على عدّة شطآن في لبنان، أثبتت تلوّثها بشكل خطير جدًا، إذ وضعت الحكومات عملًا بالمخطط التوجيهي الوطني لقطاع الصّرف الصّحي، الذي أقرّ عام 1982 وتم تحديثه عام 1994، والذي ينص على إنشاء إثنتي عشرة محطة تكرير كبيرة في المناطق السّاحلية، وعشرين محطة داخلية، إضافة إلى عدد من المحطات الصغيرة في بعض البلدات التي تتطلب إجراءات خاصة نظرًا لجغرافيتها.
عددٌ من هذه المحطّات أُنجز بقيمة مليار ونصف المليار دولار، إلّا أن معظمها لا يعمل، ما يعني أن الدولارات التي أُنفقت ذهبت إلى البحر كمياه الصرف الصحي، الأمر الذي يضعنا أمام سؤال: كيف أُنفقت المليارات وعلى ماذا أنفقت؟
مصدر خاص تحدّث لـ”أحوال” عن أنّ مجلس الإنماء والإعمار أنجز عددًا من هذه المحطّات، إلّا أنّ نسبة كبيرة منها لا تعمل بسبب مشاكل التشغيل التي تقوم بها شركات متعهدة لفترة زمنية معينة، إلّا أنّ قانون المياه أناط بمؤسّسات المياه إدارة وصيانة وتشغيل هذه المنشآت، لكنّ المؤسسات رفضت هذه المهمّة، بحجة أنّها لا تملك الخبرات البشرية والأعداد اللّازمة من العمّال بالإضافة إلى وضعها المالي الحرج.
تعمل هذه المحطات وفق ثلاث مراحل، المرحلة الأولى تُنتزع من مياه الصّرف الصّحي البقايا الحيوانية والأجزاء الصلبة فقط، أما المرحلة الثانية فتوضع مواد بكتيرية تأكل البكتيريا الموجودة في المياه، وتشكّل المرحلة الثالثة مرحلة المعالجة والتعقيم وبهذا تكون المياه الناتجة صالحة لري المزروعات والاستخدامات الأخرى، ويمكن استعمال طرق علمية حديثة في هذه المرحلة للوصول إلى استعمال المياه للاستخدام البشري.
تفتقد محطّات في لبنان إلى المرحلتين الثانية والثالثة، إذ إنّ معظم المحطّات السّاحلية والعديد من المحطّات الداخلية لا يوجد فيها إلّا المرحلة الأولى، وبالتالي المياه التي تخرج تبقى مياه ملوّثة وتُرمى في البحر أو في الأنهار، نظرًا لغياب باقي الخطوات، على ما تؤكده مصادر خاصة.
محطة الغدير مثال لما ورد أعلاه، بحيث يعمل مجلس الإنماء والإعمار اليوم وبعد إثنين وعشرين عامًا لاستكمال باقي الخطوات لتكبير سعة المحطة، من أجل الوصول إلى مياه نظيفة، والأمر نفسه في برج حمود، إذ لم تقبل البلدية تشغيل محطّة التكرير إلّا بعد انتهاء كافّة الخطوات داخل المحطّة، من أجل الحصول على مياه نظيفة.
في هذا الإطار، وجّهت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني كتبًا إلى وزارات المالية والداخلية والبلديات والطّاقة والمياه والبيئة، والأمانة العامة لمجلس الوزراء، طلبت بموجبها العمل بشكل فوري على تأمين الاعتمادات اللّازمة لضمان استدامة تشغيل وصيانة محطة تكرير الصّرف الصّحي التّابعة لمدينة زحلة من قبل مجلس الإنماء والإعمار، وذلك تفاديا لوقوع كارثة بيئية وصحّية تضاف إلى معاناة سكان منطقة الحوض الأعلى لنهر الليطاني، في ظل إعراب مؤسسة مياه البقاع عن عدم قدرتها على تسلم وإدارة وصيانة وتشغيل محطة زحلة نظرًا لعدم توفر الخبرات البشرية، بالإضافة إلى وضعها المالي الحرج، وبالتالي فإنه في حال عدم تجديد عقد الإدارة الحالية أو إيجاد حلول أخرى، سيتدفق 18 ألف متر مكعب يوميًا من مياه الصرف الآتية من المناطق السكنية التابعة لمدينة زحلة دون معالجة، مما سيشكل كارثة بيئّية لمياه نهر الليطاني وبحيرة القرعون، تضاف إلى الوضع البيئي السّيء بسبب تدفق حوالي 45 مليون متر مكعب يوميًا من مياه الصرف الصحي غير المعالج من 69 بلدة واقعة في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، علمًا أن تكلفة بناء محطة زحلة قد بلغت 36.8 مليون دولار أميركي، وإن التوقف عن تشغيل المحطّة يكون بمثابة هدر للمال العام وللموارد المائية والبيئية.
ويشير المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية في حديثه مع “أحوال” إلى أنّه وبعد سلسلة مراجعات ومراسلات وجّهتها المصلحة بموجب مهام الحكومة وتنسيق الجهود المخوّلة لها حول تطبيق القانون رقم 63 تاريخ 27/10/2016 (المتعلّق بتخصيص اعتمادات لتنفيذ بعض مشاريع وأعمال الاستملاك العائدة لها في منطقة حوض نهر اللّيطاني من النبع إلى المصب بقيمة 1100 مليار ليرة لبنانية، والمخصّص منها اعتمادات بقيمة 1068 مليار ليرة لقطاع الصرف الصحّي في موازنة وزارة الطاقة والمياه ومجلس الإنماء والإعمار) وحول تطبيق القانون 64 الصادر في 3 تشرين الثاني عام 2016 المتعلّق بالموافقة على اتفاقية قرض لمشروع “الحدّ من تلوّث بحيرة القرعون” بقيمة 55 مليون دولار، أكثر من 50 مليون دولار منها مخصّص لقطاع الصرفي، لم تتقدّم الأشغال ولم تظهر أي جهود لا في معالجة مياه الصرف الصحّي ولا في بدء الأشغال لتنفيذ المشاريع ضمن المهل الزمنية، ولم يتبيّن أيضًا مصير الأموال والمليارات التي يبدو أنّها ضاعت مع الأموال المنهوبة.
ويرى مدير عام مؤسّسة مياه البقاع رزق رزق أنّ المشكلة الأساسية لعدم استلام المؤسّسة لمحطات التّكرير هي عدم توفّر الأموال، فمنشأة زحلة بحاجة إلى مليون ونصف مليون دولار سنويا لتشغيلها، والمؤسسة لا تملك هذا المبلغ، ولا الحكومة تدفع، ولا يمكن تحميل المواطن 300 ألف ليرة بدل صرف صحي، لافتًا إلى استلام المؤسسة لمحطّتي بعلبك وإيعات بعد وعد من مجلس الوزراء بتسليمها 4 مليارات، وحتى الآن لم تستلم المبلغ، أما المشكلة الثانية فهي بسبب عدم لحظ ملاك للصرف الصحي في المراسيم التنظيمية لمؤسسات المياه، وهذا يعني أنه يجب الاستعانة بموظفي مياه الشرب، وأصلًا يوجد شغور 80% يعوض عليه بموظفي غب الطلب 15%، يعني هناك شغور 65%، ما يعني حدوث شغور في قطاع مياه الشرب في حال الاستعانة بموظّفيه.
ويؤكّد رزق أن تسلّم مؤسّسات المياه لقطاع الصّرف الّصحي دون تأمين الأموال اللّازمة، يعني إطلاق رصاصة الرحمة على رأس المؤسسة، مؤكدًّا ضرورة أن يكون هناك قرار في البلد بوجوب تخصيص مبالغ للصرف الصحي والدولة يجب أن تؤمنه.
هذه الأرقام الخياليّة للأموال التّي اُنفقت على قطاع مثقوب دفع النيابة العامة التميزية العام الماضي، لإجراء تحقيقات حول شبكات الصّرف الصّحي ومحطّات التّكرير، وكان آخر إجراء تكليف شركة تدقيق فنّي للكشف والتّدقيق بالدّراسات والتّنفيذ لما تم إنجازه، وكان القاضي العام بصدد الادّعاء على عدد من المتعهدين الذين سيثبت التحقيق تقصيرهم، وبعد ذلك لم يحصل أي إجراء .
إنّ أزمة الصّرف الصّحي في لبنان تعدّ من أخطر الأزمات التي يعيشها، بحسب ما يرى أستاذ القانون البيئة في الجامعة اللّبنانية الدكتور عامر طرّاف، إذ إنّ أحدًا لا يعرف كيف أُنفقت هذه الأموال على محطات التكرير وشبكات الصرف الصحي، ولا أحد من المعنيين يُعلم الخبراء أو الباحثين بالأرقام التي أُنفقت، مشيرًا إلى أنّ العديد من المحطات التي أُنجزت وتوقفت عن العمل أُصيبت بالخراب، داعيًا المعنيين لإعادة النظر بهذا القطاع لاستدراك ما يمكن استدراكه من أجل التخفيف عن البيئة وتلوثها، وحفاظًا على المال العام.
مليار ونصف المليار دولار رقمٌ ليس بقليل في بلد مفلس ومديون، أُنفق هذا المبلغ على شبكات ومحطّات لتكرير مياه الصرف الصحي من أجل استغلال هذا القطاع في التنمية المستدامة والتخفيف من التلوث البيئي الحاصل، إلّا أن النتيجة كانت عكس ذلك تمامًا، مزيد من الهدر للمال العام ومزيد من الفتك بالطبيعة ومكوناتها.
منير قبلان