سياسة

الشرع وفخ نيويورك: المصيدة مجدداً

كتب هيثم حميدان*

ما يبدو على السطح فشلا آخر في مسارات التفاوض، أي تعثر المحادثات بين السلطة الانتقالية الجديدة في دمشق وإسرائيل، هو في حقيقته ليس فشلاً على الإطلاق، بل هو تجلٍ   لنجاح إسرائيل الذي يطرح علينا في هيئة الفشل.

إن قراءة لما أوردته وكالة رويترز، والنظر في بنيته العميقة، تكشف أننا لسنا أمام عقبة عفوية، بل أمام اكتمال مناورة متقنة، فخ دبر بعقل الدولة البارد، ووقع فيه أحمد الشرع (الجولاني)،  لأنه لا يزال حبيس منطق الفصيل الذي لا يمكنه أن يرى أبعد من حدود السيطرة العسكرية المباشرة.

هنا، تم تسليح الممر، وتحويله من ممر انساني إلى السويداء إلى أداة جيوسياسية حادة، صممت  لتكون منتجا استراتيجيا في كل الأحوال، سواء نجحت المفاوضات أم انهارت.

لكل فخ ناجح، لا بد من طعم يغوي الضحية بالدخول إلى منطقة اللاعودة. والطعم هنا لم يكن مجرد وعد بوقف الضربات الإسرائيلية، بل كان وهماً أكبر، وهم إمكانية تحول الجولاني من قائد فصيل منتصر عسكريا إلى رجل دولة معترف به، وهم إمكانية حيازة استقرار لم يكن إلا سراباً.

لقد سمحت إسرائيل، وبرعاية أمريكية لا يمكن فصلها عن بنية الفخ ذاته، بتقدم المحادثات لأشهر، مانحة إيحاء بأن الاتفاق الشامل بات في المتناول، بينما كانت في الحقيقة تحفر الأرض تحت أقدام خصمها.

في باريس، طرح مطلب الممر الإنساني لأول مرة، ورفض فوراً بما هو متوقع من أي سلطة تدّعي السيادة الكاملة على أراضيها، بوصفه انتهاكا لهذه السيادة. لكن حنكة المناورة تكمن في أن إسرائيل لم تصر على ما يبدو، بل تراجعت تكتيكيا عن المطلب، موحية لدمشق بأن العقبة قد ذللت. هذا التراجع المفتعل هو ما سمح للشرع بالانغماس أعمق، وبالغرق أكثر في وحل التفاصيل الأمنية، مقدماً ربما تنازلات جوهرية تتعلق ببنية قواته وتسليحها وربما بيع الجنوب بالكامل ، بينما هو يعتقد أن القضية الأكثر رمزية وحساسية قد تم تجاوزها. لقد تم استدراجه إلى نقطة أصبح فيها التراجع عن الاتفاق كلفة سياسية باهظة، وهذا بالضبط ما كانت تنتظره إسرائيل.

في اللحظة التي تسبق التوقيع، وفي ذروة الأمل، أعادت إسرائيل طرح المطلب ذاته، ولكن هذه المرة ليس كورقة تفاوض، بل كشرط نهائي وحاسم: الممر الإنساني إلى السويداء. هنا، أغلقت المصيدة بإحكام، ليجد الشرع نفسه محاصراً داخل معضلة لا خيار صحيح فيها، بل خياران كلاهما هزيمة بنيوية:

الرفض، أو السقوط في الفخ : إن هو رفض الممر، سينهار الاتفاق برمته. وبذلك، لا يظهر فقط كطرف متعنت أفشل السلام، بل كمن فعل ذلك لسبب إنساني، فيتحول في الخطاب الدولي، خاصة الأمريكي، من براغماتي محتمل إلى مجرد زعيم ميليشيا يرفض إغاثة المدنيين. هذا المآل يدمر أي مشروعية سياسية كان يطمح إليها، ويمنح إسرائيل تبريراً أخلاقياً وسياسياً لمواصلة استنزافه عسكرياً تحت حجة أنه نظام لا يمكن الوثوق به، نظام لا يزال ينتمي إلى عالم العنف المحض.

القبول، أو الانتحار السياسي: أما إذا وافق، فإنه يرتكب فعلاً لا يقل عن انتحار سياسي. فالموافقة على ممر إنساني دولي لا يمر بالعاصمة، هو إقرار فعلي بأن السويداء لم تعد جزءا عضويا من السيادة السورية، بل أصبحت كياناً ذا حدود قابلة للاختراق الدولي المباشر. هذا القبول لا ينسف فقط خطابه عن وحدة سوريا، بل يمنح مشروع الحكم الذاتي في السويداء شرعية دولية، يصبح القبول بمثابة عملية بتر للسيادة يقوم بها السيد نفسه، في مفارقة مأساوية تكشف عن عمق العجز.

إن ما يميز عقل الدولة الحديثة هو قدرته على تصميم آليات تكون منتجة في كل السيناريوهات.

لم تكن إسرائيل بحاجة إلى جواب محدد من الشرع، لأن الفخ كان مصمماً بحيث ينتج أرباحاً استراتيجية في كلتا الحالتين:

في حالة الرفض، تنجح في فضحه دولياً، وتجريده من أي غطاء سياسي، وتستمر في ممارسة العنف المشروع ضده.

في حالة القبول، تنجح في تحقيق هدفها الأسمى: خلق منطقة عازلة ومستقرة وموالية بحكم الأمر الواقع، وتأمين حدودها الشمالية بشكل دائم عبر تفكيك بنية الدولة السورية من الداخل.

في معنى أن تحكم ولا تملك السيادة:

قد يكون أحمد الشرع قد سيطر على دمشق، لكن هذه الحادثة تظهر أنه يخسر لعبة الشطرنج الكبرى، لأنه يواجه خصماً لا يلعب بنفس الأدوات. هو لا يزال يفكر بمنطق الغلبة العسكرية، بينما إسرائيل تفكر بمنطق الدولة الذي يسخّر القانون الدولي والدبلوماسية والقضايا الإنسانية كأسلحة.

فهل يمكن لمنطق هيئة تحرير الشام وتكتيكات القاعدة ان تبني دولة؟ إن السيطرة العسكرية على الأرض لا تترجم تلقائياً إلى سيادة، بل قد تكون، كما نرى اليوم، مجرد تكريس لحالة التبعية والعجز البنيوي للسلطة الحاكمة.

*دبلوماسي سوري سابق

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى