د. هشام الأعور – دروز سوريا بعد 2011: مجتمع محاصر بين التطرف وانهيار الحماية

منذ اندلاع الاحتجاجات في سوريا عام 2011، ثم تحوّلها إلى نزاع مسلح شامل، وجد مجتمع الموحدين الدروز نفسه في موقع حساس ومعقد، خاصة في محافظة السويداء حيث يتركز وجودهم الديمغرافي الرئيسي. اتخذت الطائفة، في غالبيتها، موقف الحذر والحياد عن طرفي النزاع، لا عن قناعة تامة بسياسات النظام، بل بدافع من تخوّف مشروع من البدائل المطروحة على الأرض، خصوصًا مع بروز الفصائل الإسلامية المسلحة ذات الطابع الإقصائي والعقائدي.
هذا الموقف المتحفظ لم يمنح الدروز حماية حقيقية، بل سرعان ما وجدوا أنفسهم في قلب المواجهة، ليس فقط مع أطراف الصراع السياسي، بل مع تنظيمات إرهابية على غرار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي استهدف وجودهم بشكل مباشر. أبرز تلك الاعتداءات كان الهجوم الدموي الذي نفذه التنظيم في يوليو/تموز 2018، وأسفر عن مقتل أكثر من 250 مدنيًا في ريف السويداء الشرقي، إضافة إلى اختطاف عشرات النساء والأطفال. هذا الهجوم لم يكن مجرد جريمة إرهابية، بل محطة فاصلة في إدراك المجتمع الدرزي لعمق المخاطر التي تتهدده، ولضعف أو غياب الحماية الأمنية من قبل الدولة السورية.
اتهامات واضحة وُجهت حينها للنظام السوري، ليس فقط بالتقصير الأمني، بل أيضًا بالتواطؤ أو الاستثمار السياسي في وقوع الهجوم. وكان من اللافت أن التنظيم استطاع التوغل في عمق مناطق يفترض أنها تحت سيطرة الدولة، دون أن يتم التصدي له بشكل فعال. هذا الواقع ولّد حالة غضب داخلية عارمة، وشكّك في صدقية خطاب الدولة حول حماية الأقليات.
في المقابل، برزت مبادرات محلية داخل السويداء لتأمين الحماية الذاتية للمجتمع، مثل تشكيل فصائل أهلية غير خاضعة للسلطة الأمنية المركزية، وعلى رأسها “قوات رجال الكرامة”، التي حملت شعار الدفاع عن كرامة ودم أبناء الجبل. هذه القوات عبّرت عن رفض واضح لزج شباب السويداء في معارك النظام على الجبهات الأخرى، وطالبت بحصر الخدمة العسكرية ضمن الحدود الجغرافية للمحافظة. كما شكّلت محاولة لبناء نوع من “الأمن المجتمعي” بعيدًا عن استغلال الأجهزة الأمنية.
في السنوات التالية، تطوّر هذا الحراك إلى أشكال من المقاومة المدنية، حيث شهدت السويداء احتجاجات سلمية متعددة طالبت بالإصلاح، وإنهاء الفساد، واحترام الحريات. تميزت هذه التحركات بخطاب سياسي واجتماعي متقدم، يرفض السلطة المركزية دون أن يتبنى السلاح، ويطالب بحلول سياسية عادلة دون الانجرار وراء الطائفية.
مع ذلك، يبقى خطر داعش وغيره من التنظيمات التكفيرية قائمًا كتهديد استراتيجي طويل الأمد على مستقبل الدروز. فغياب حل سياسي شامل، واستمرار الفوضى الأمنية، وعودة النشاطات الإرهابية على أطراف المحافظة، كلّها عوامل تهدد بإعادة سيناريوهات العنف والتهجير. لا يقتصر الخطر على الاعتداءات المباشرة، بل يمتد ليشمل فرض منطق القوة والتهديد على مجتمع يفتقر إلى دعم دولي حقيقي، وتغيب قضيته عن معظم المبادرات الحقوقية المعنية بالأقليات في النزاعات.
ما يواجهه الموحدون الدروز اليوم هو صراع من أجل البقاء، ليس فقط سياسيًا بل وجودياً وثقافيًا أيضًا. فاستمرار استبعادهم من المعادلة السياسية، وتعامل النظام معهم باعتبارهم رصيدًا يمكن تعبئته وقت الحاجة فقط، يهددان بتفكيك مجتمع كان تاريخيًا أحد أعمدة التعددية في سوريا. إن مستقبل الطائفة الدرزية في سوريا مرهون بوجود ضمانات سياسية ودستورية حقيقية تضمن حماية الأقليات، وتجرّم الخطابات والممارسات التكفيرية، وتعيد بناء الدولة على أسس مدنية عادلة.
وفي ظل استمرار الخطابات والممارسات الإقصائية، سواء من قبل الجماعات التكفيرية أو عبر سياسات الدولة المركزية التي تغضّ الطرف عن استهداف الأقليات، تبرز مخاطر جدية تهدد وحدة سوريا الجغرافية والمجتمعية. إن التعامل مع مكونات المجتمع السوري على أساس طائفي أو أمني، وغياب العدالة المتوازنة، يشكلان بيئة حاضنة لإعادة إنتاج مشاريع التقسيم والفدرلة القسرية المبنية على الانتماء الديني أو المذهبي، لا على المواطنة.
إذا استمر النظام السوري في تقديم نفسه كحامٍ للأقليات مقابل التنازل عن الحريات العامة، وإذا استمرت المعارضة في احتضان الخطاب التكفيري ضمن بعض أجنحتها، فإن النتيجة الطبيعية ستكون المزيد من التفكك، وتحوّل الطوائف إلى كيانات مغلقة تبحث عن الحماية بالسلاح، لا بالحق. في هذا السياق، لا يبدو أن مصير دروز السويداء سيكون استثناءً، بل قد يصبح نموذجًا لما قد يصيب أقليات ومجتمعات أخرى إذا لم يُعاد الاعتبار للمسار الوطني الجامع والعدالة المتساوية في الحقوق والواجبات.