صيّادو الأسماك يتقاتلون مع “تنّين البحر”: الرزقه ع ألله
قبل أن ينبلج الصباح الباكر، تكتحِل عيناك بهم على الصخور وبين رمال الشواطىء… تراهم يُبحرون في عباب اليَم بحثاً عن “صيد ثمين” من الأسماك الطازجة، ويتمنّون لو أنّها تكون “حرزانة” لكي تتنعّم عائلاتهم بأكلها أو بَيعها كي يحَسّنوا بثمنها أوضاعهم المتردية… إنّهم صيّادو الأسماك الذين “يتقاتلون” يومياً مع “تنّين البحر” على مختلف الشواطىء اللّبنانية…
تقترب من أحدهم فتلاحظ انه يحضّر “الطُعم” قبل أن يُلقي صنّارته وسط الأمواج… إنه جورج مهنا، من منطقة العاقورة، القرية الجبلية العالية في قضاء جبيل، والذي يَرتاد مينا جبيل صبيحة كل يوم، غير عابىء بالطقس العاصف والأمواج العاتية… يَرمي صنّارته الى أبعد مكان في البحر، ويقول لك بفخر من دون أن يشيح نظره عن الصنّارة: “مِن أنا وزغير كان الصيد هواية عندي… وكنت أجيء الى هذه المينا برفقة أبي وأخوتي… والآن أصبحت وحدي”. وبعد أن يمسَح دمعة تلألأت على خده الأيمن، يضيف: “بَس هلّق عم مَرِّن إبني عالصيد كمان… “بْيِغدِي” معي كل يوم الساعة 5,30 صباحاً، ولا يكترث للبحر إذا كان “هادي أو هَايج”…
وبعد ربع ساعة من وقوفك معه، تسأله: ما شِفتك عم تشيل سمك؟
فيضحك عالياً، ثم يجيب: “لازم إصبر شوي تا يبَيّن السمك، أنا هلّق صَاليلُن… وضعتُ “ربّالا” بيضاء في الصّنارة كي أصطادها… أنا لا اصطاد بالعجينة، وهذا الأمر يساعدني كي أنتشِل السمكة الكبيرة… وهناك أنواع كثيرة من السمك تعلق بصنّارتي كل صباح: لقس، تراخون، بريقات، جراوي… علماً أنّ السمك يسعى وراء البِزرة، ولو كان موجوداً الآن، لكنت رأيته عائماً على وجه المياه…
البارحة صباحاً ظهر سمك التراخون “عا مَيلِة السَنسول”، فاصطدتُ منه سمكتين، كل واحدة وزنها وقيّتين…”. وعندما تسأله: السمك بيطَعمي خبز؟ تراه ينظر إليك نظرة ذات مغزى، ثم يجيب: “أنا باكلن وما ببيعُن… السمك ليس مصدر عَيشي… نحن 5 أشخاص في المنزل، وبالكاد نِتغدّى مِنن كلّ واحد نِتفه… مهنتي الأساسية هي معلّم بلاط، ولا يوجد عمل حاليّاً بسبب كورونا… عم نِتسلّى عالبحر نحنا وهالسمكات…”.
تبتعد عنه قليلاً كي لا “يلتهي” معك أكثر، وتقترب من صيّاد آخر، تدلّ قسمات وجهه على أنه “عَتيق” في هذه المهنة، يقول إنّ اسمه “مجهول الهوية”… تراقبه وهو يصطاد، وبعد قليل تسأله:
– إلك زمان بتجي عالصيد ؟
فيجيبك بأنفة: “ياه… إلي شي 20 سنة”.
– وانشالله عم تتوفّق؟
فيبتسم، ويرخي الصنارة قليلاً من يديه، ويقول: “من شهر كان فيه شويّة حركة بالبحر، بس هلّق خَفِّت… بس يتغَيّر الطقس بيرجَع يكتر السمك… صرنا معَوّدين عا هالتقلبات… كنّا عم نشتغل شوي بس إجو وَقّفونا… عم نتسلى بصيد السمك يَوميّه كرمال نأمّن أكل للعيلة…”.
ومن خلال “موانسَتك” معه، تعرف أنّه اشترى منزلاً قديماً في جبيل، يسكن فيه مع عائلته… وهو يَعتاش يوميّاً ممّا يقدّمه له البحر… “مبارحه تصيّدت سمك، بس يا حسرة.
أكبر سمكة كانت شي 3 سنتم…”، يقول لك ذلك والألم يعتصره، فترأف لحالته وتحاول أن تعطيه بعض “المعنويّات، فتقول له: “عم بيقولو بالأخبار إنّو فيه موجِة شتي بهاليومَين”. فيبتسم ابتسامة ظافرة، ويقول: “انشالله… لازم تشتّي شي 10 ايّام كرمال يقرِّب السمك عالشط، ونِستفيد من صَيدو… مع إنّو عم نحِط مواد لـ”إغراء” السمكات كرمال يعلقوا بالصنّارة، بس ما عم نِقدُر لَيهُن… صارو كتير “زَكايا…”.
وتسأله مجدداً: عندك شي ضمان أو بتِتحَكّم عا حساب وزارة الصحة؟
فيضحك ساخراً، ثم يتنهّد ويقول: “ما عنّا شي من كِل اللي عم تحِكيه… أنا مضمون من شغلي الأساسي… وما حدا بيساعدَك إلّا رَبّك ومَرتك وعَيلتك… دولة تساعدك؟! إنسى…”.
تتركه لعله “يتوَفّق” بـ”شي سمكة حرزانة”، وتمشي على رصيف مينا جبيل متأمّلاً المراكب وهي تنطلق في اتجاه البحر… تسرّح نظرك في البعيد البعيد لعلّك تشاهِد بارقة أمل آتية مع الموج الهادر الذي يلفح أذنيك بضجيجه، لعلها تخفّف من حِدّة حزام البؤس الذي يلتفّ على رقاب هؤلاء الصيادين… وتحلم بأنهم سوف يُكافَأون… وتحلم… وتحلم…
معظم المهَن هي شريفة في لبنان شَرط أن “نَشتغلها” بعرق الجبين وبمسؤولية وتَفانٍ… وإنّ المُدمن على اصطياد السمك هو أشرف من المدمن على اصطياد المخدرات أو الوزارات أو البَشَر… فحبّذا لو تدمن الدولة اللبنانية على توفير الحياة الهانئة لصيّادي الأسماك لأنّ مهنتهم شريفة حقاً، علماً أنهم لا يهددون خطر أحد… إلّا الأسماك.
طوني طراد