مع كل نفس نأخذ من المال العام ونعطيهم
كثيرون كانوا وما زالوا لا يعرفون أنّ الكهرباء التي نسرف في استهلاكها في منازلنا وأماكن العمل، ندفع من جيوبنا نصف ثمنها فيما تدفع الحكومات المتعاقبة النصف الثاني، من المال العام.
المدارس الخاصة التي نرسل أولادنا إليها، ندفع من جيوبنا نصف أقساطها وتدفع الحكومات المتعاقبة النصف الثاني من المال العام. قالب الحلوى الذي نحتفل به مع أولادنا في أعيادهم، ندفع من جيوبنا نصف ثمنه وتدفع الحكومات المتعاقبة النصف الثاني، من المال العام؛ حتى رغيف الخبز ندفع من جيوبنا نصف ثمنه، وتدفع الحكومات المتعاقبة النصف الثاني، من المال العام.
السيارات والدراجات وألعاب الأولاد والأدوات الكهربائية وكل ما نشتريه بحماسة، ندفع من جيوبنا نصف ثمنه وتدفع الحكومات المتعاقبة النصف الثاني من المال العام، عبر ما يُسمّى بدعم سعر صرف الدولار.
لقد اخترع السياسيون بعيد الطائف نظام نهب استثنائيّ في ذكائه صراحة؛ يجرف المواطن – كل مواطن دون استثناء – من المال العام، ويعطي ما يجرفه لهم. إنّه نهب المال العام بواسطة المواطنين. “يأخذ المواطن المال، يفرح، يعيده لنا”. يقول لسان حال السياسيين.
لماذا ننشئ سكة حديد أو نطوّر النقل العام، كما في كل دول العالم، فنسرق مرة واحدة من الاستثمارات في البنية التحتية؟ أبداً، تعالوا ندعم سعر المحروقات، وندعم القروض المصرفية لشراء السيارات، فيتباهى المواطنون بسياراتهم الجديدة ويشعرون بأنهم عظماء يعيشون في بلد عظيم، فيما في الواقع يستفيد أصدقاؤنا الذين يحتكرون استيراد السيارات ووكالاتها ويحتكرون استيراد النفط وتوزيعه.
لماذا نتعب في إيجاد مستثمرين في قطاع صناعة الدواء؟ نقفل المختبر الوطني وندعم سعر الدواء المستورد، فيسعد المواطن الذي يجد أجدد دواء وأغلى دواء في الصيدلية تحت منزله، ويستفيد أصدقاؤنا الذين يحتكرون استيراد وتوزيع الدواء. يدفع المواطن نصف سعر الدواء من جيبه والنصف الثاني من المال العام. هكذا تتعزّز قدرته الشرائية ولا تذهب هذه الأموال يميناً أو يساراً إنّما تعود لنا.
لماذا نتعب على تطوير التعليم الرسمي؟ نضاعف أعداد المستفيدين من دعم الأقساط التعليمية، فيستفيد المواطن ويستفيد أصدقاؤنا الذي يستثمرون في التعليم.
لماذا نفكر بوضع سياسة إسكانية؟ ندعم القروض السكنية. وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
بدأ الأمر عبر انفاق الصناديق الجنونيّ من “المهجرين” إلى “الجنوب” إلى “الهيئة العليا للإغاثة”: هل كانت تذهب تلك الأموال إلى جيوب اثنين أو ثلاثة من السياسيين؟ لا أبداً، لقد كانت تُوزّع كرشاوى تتراوح بين أربعة وأربعين مليوناً لكل أسرة؛ رشوة مباشرة مقابل تقديمهم فروض الطاعة السياسية أو المذهبية لهذا السياسي أو ذلك. وهل يمكن استعادة هذا النوع من الأموال المنهوبة؟ لا طبعاً، مستحيل؛ حالهم من حال المبالغ الخيالية التي أنفقتها البلديات كمساعدات اجتماعية. ثم تطوّرت استراتيجية الدعم كنهب منظم للمال العام: دعم الرغيف، دعم الليرة، دعم المحروقات، دعم العجين، دعم الدواء، دعم الأقسام المدرسية، دعم الجمعيات، دعم الأسر الفقيرة عبر البلديات، دعم البلديات، دعم مزارعي التبغ والتنباك، دعم الكهرباء، دعم الاستشفاء الخاص وغيره الكثير جداً.
ألم نكن نعيش جميعاً في ذلك البلد الخيالي، حيث يبقى سخّان المياه شغالاً العام بطوله، ولا نقبل على أنفسنا أن يكون ثمة “لمبة” واحدة مطفأة في المنزل، فيما أكثر الدول تطوراً في انتاج الكهرباء تستخدم “نواسات” ولا تجدون في المنزل “لمبتين” مضاءتين في الوقت نفسه.
لماذا؟ لأنّ المواطنين في تلك الدول يدفعون ثمن الكهرباء، فيعرفون قيمتها. أما في حالنا، فالكهرباء شبه مجانية لأنّ الحكومة تدفع من المال العام، ونحن نعتبر كل ما هو ملك عام جدير بالاستغلال حتى آخر نفس.
لم يكن أحد، في السلطة وخارجها، من فوق أو من تحت، يعتقد أننا يمكن أن نصل إلى هذا النفس الأخير، لكننا وصلنا فعلاً. واليوم ثمة أفكار نيّرة فيما خص ترشيد الدعم لكنه وهم بوهم؛ ففي بلد كهذا البلد يستحيل ترشيد الدعم. ويكفي في هذا السياق، أنّ النقاش يبدأ من ترشيد الدعم في الدواء، فيما دعم التعليم الخاص والاستشفاء الخاص والجمعيات وبلديات الفساد يتواصل بشكل طبيعيّ جداً ولا يأتي أحد على ذكره فيما هو الأخطر والأكبر والأوقح.
طوال سنوات ارتشينا جميعنا، فسكتنا كشعب لا كأفراد، عن عدم وجود نقل عام، وتعليم رسمي، واستشفاء، ومشروع سكني، ومساحات عامة، وكهرباء، وحلول مستدامة للنفايات.
أسكتونا عبر المال العام، يعطوننا منه بالجملة وبالمفرق. رشاوى تُرى أو لا تُرى، لا يهم. رشاوى بمعرفتك أو بعدم معرفتك، لا يهم أيضاً. في وعيك أو بلا وعيك؛ تأخذ من المال وتعطيهم. يومياً، تأخذ من المال العام وتعطيهم. في كل ساعة، في كل دقيقة: مع كل “لقمة” تأكلها وكل ضوء تنيره، ومع كل إقلاع سيارة؛ تأخذ من المال العام وتعطيهم.
غسان سعود