مجتمع

أيها الإعلام اللبناني: الزراعة بدل التنجيم والتسييس والجنس

منذ بضعة أشهر تقدم المحامون هاني الأحمدية، حسن بزي وجاد طعمة بشكوى جزائية أمام النيابة العامة التمييزية ضد عدد من العرّافين الذين يحتلون شاشات التلفزة ويحققون الربح المادي على حساب زعزعة ثقة اللّبنانيين باستقرار المجتمع أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا. وقد طلب المدّعون في ختام شكواهم منع العرّافين من القيام بجرائمهم مجددًا، كما وبإلزامهم دفع تعويضات شخصية تخصص لتأهيل قصور العدل.

هذا الخبر الجميل شكلًا، اختفى على ما يبدو في أدراج المحاكم لأسباب لا نعرفها، على غرار الكثير من الأخبار الدسمة “أخلاقيًا وتنمويًا”، من الأقوى هنا؟ وهل من يجرؤ ونحن على أبواب سنة جديدة على وضع حدّ لهؤلاء؟.

تجربة أولى: إحباط

سامر م. شاب باحث، في ريعان حماسته البريئة، يبتكر فكرة برنامج تلفزيوني يلقي الضوء على المشاريع التنموية والشبابية الصغيرة، في الصناعة والزراعة والسياحة والبيئة…. وخاصةً تلك الريفية منها، وتأخذه أمواج الحلم إلى وضع مخطّط البرنامج وعرضه على بعض قنوات التلفزة المحلية.

هذا الشغف بالفكرة لاقى استحسان كلّ من تواصل معهم من مسؤولين في المحطات، ولكن الغصة كانت مرفقة بوجوب مراجعة شركة الإعلانات الملتزمة. الترحاب في مكاتب شركات الإعلانات لحظة الاستقبال لا يشبه لحظة الخروج منها، الدخول كالفاتحين لا يشبه الخروج بطعم الهزيمة، وبعد شرح الفكرة “عليك أن تؤمن رعاية من أي جهة أو شركة للبرنامج أو أن يكون على شكل تقارير في نشرة الأخبار بشرط أن لا يقلّ ثمن التقرير ذات الدقيقتين عن 10 آلاف من الدولارات الصافية لنا وأتعابك تحصلها من الزبون”. وما زال يدور في حلقاتهم المفرغة حتى الآن.

تجربة ثانية مختلفة

برنامج “العوافي” عبر قناة otv (اعداد وتقديم مروان حيدر – اخراج كارين نقولا أبو جودة- كل أحد 20:30). برنامج متخصص بالإضاءة على الزراعة وكل المشاريع المرتبطة بها أو الصناعات التحويلية والتصنيع الزراعي.

لا يخفي البرنامج بعضًا من التسويق اللّطيف للمنتجات ولبعض المشاريع ولكنّه جدير بالمتابعة في كيفية صياغته وتقديمه للمعلومات المهمّة في كلّ حلقة (نحو 40 دقيقة)، تلفزيونية. ويتناول في كل حلقة، طرقًا ونصائح حول الزراعات والعناية بالنبات، ويعمل على إشراك الأطفال وتعليمهم كيفية الاعتناء بالشتول وتقريبهم من الأرض والزراعة والعمل اللّذيذ في هذا القطاع.

في هذا البرنامج الحيوي السلس كسرت المحطة النمطية السائدة عن القطاع الإنمائي بشكلٍ عام والزراعة بشكلٍ خاص، مقدِّم البرنامج مروان حيدر ملمّ بكلّ ملف وموضوع، مستخدمًا لغة الفلاحين ومازجًا بين جمال الكلمة وروعة الطبيعة، وضيوف على درجة جيدة من الثقافة والعلم والتجربة، ويمكن للمتخصّص وللعامة أن يشاهد الحلقة براحة وهدوء.

إذن، ومن خلال هذه التجربة يمكن أن تساهم محطات التلفزة في الإضاءة على هذه القطاعات دون شروط التسويق والإثارة، وبحسب ما يتردّد في كواليس البرامج الإعلامية أنّه من البرامج الجاذبة ويتمتع بمشاهدات واسعة لدى شريحة كبيرة من اللّبنانيين.

 

تجربة ثالثة مذهلة

منذ بضعة أشهر قام مجموعة من الشبان المتخصصين بالزراعة بإطلاق مجموعة على الفايسبوك بعنوان “إزرع” وقد عرّفوا عن أنفسهم بالكلمات التالية “نحن مجموعة من المهندسين المختصين في مجال الزراعة المستعدين لتقديم المساعدة للأشخاص الراغبين بتحقيق المزيد من الاستقلالية الغذائية لا سيّما في الأزمة الحالية التي نعيشها وللترويج لجميع أنواع الزراعات لتعزيز القطاع. نحن ملتزمون بتطبيق ونشر أفضل الممارسات الزراعية لإنتاج محاصيل صحية باعتماد الطرق والوسائل الأكثر فعالية والمراعية للبيئة. تحقيقًا لهذه الغاية، سوف نقوم بعرض دورات تعليمية ونصائح مفيدة. ونحن مستعدّون للإجابة عن جميع أسئلتكم المتعلقة بالزراعة الحضرية أو الريفية، التقليدية أو التكنولوجية. ونأمل أن تكون هذه المبادرة قادرة على التخفيف من آثار الأزمة الحالية وتترك أثرًا إيجابيًا على الجميع”.

المفاجأة الصاعقة كانت بحجم التفاعل الكبير لرواد الموقع الأزرق مع فكرة الزراعة، عشرات آلاف الأعضاء ومئات آلاف التعليقات التي ملأت حائط الموقع بالحوارات والمعلومات والصور والأخبار والتجارب، ومنهم من يستغل الموقع لوضع إعلانات منتجاته البلدية وصناعاته الحرفية، وإذ يعمد مديرو الموقع إلى التدخل أحيانًا كثيرة لتصحيح معلومة أو تصويب نقاش أو شرح نقطة استعصت، ما يزيد من إغناء التجارب التنموية.

من يتابع الموقع يُفاجأ بسرعة وحجم التفاعل على مدار الساعة ومن فئات اجتماعية مختلفة ومتنوعة ومن كلّ المناطق اللّبنانية وبيئاته المختلفة.

وبخلاصة سريعة، لماذا لا يقرأ القيّمون على المؤسسات الإعلامية والإعلاميين هذه النماذج الحيّة وتتجه جهودهم نحو قضايا تنموية ويتعاملون معها ببساطة دون تعقيدات الأرقام وجفاف “الخبراء” ولعبة المتأمرين على القطاعات الإنتاجية والإضاءة على المهن التقليدية والفقراء وصغار العمّال والمزارعين وقضايا إنماء الريف وتثبيت الناس في قراها وتخفيف الازدحام المديني وتقليص الفوارق الاجتماعية ومعالجة أزمات النفايات والتلوّث وإبعاد الناس عن الضواحي المكتظة وتخفيف زحمة السير القاتلة يوميًا وإثارة اهتمامات الشباب باتجاه الصناعات التقليدية والحرفية والصناعات التحويلية الخفيفة وطرق الزراعة الحديثة وأفكار جديدة في تجارب تنموية مستحدثة.

كيف ستخرج وسائل الإعلام من دوامة الإعلان الإستهلاكي المادّي نحو الإعلام التوعوي المتخصّص؟ متى سنسمع بمصير دعوى المحامين على العرّافين؟ وأين سنجد وظيفة لسامر م. تقيه العوز ونستفيد من أفكاره؟.

 

عامر ملاعب

عامر ملاعب

كاتب وصحافي لبناني، يحمل شهادة الدبلوم في التاريخ من الجامعة اللبنانية، عمل في صحيفتي الأخبار والحياة. أعد وقدم برامج في قناة الثبات الفضائية، وإذاعة صوت الشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى