منوعات

جعل عمرها ما تكون “حكومة”

في مثل هذه الأيام من كل عام، تتكرّر النقاشات الثقافية الفكرية الجيو-سياسية التنويرية، بشأن تطوّرات تشكيل الحكومة؛ فيتعاقب سياسيون ومحلّلون ونشطاء، على الإدلاء بدلوهم في هذه “القصة” العظيمة.  ويكاد واحدنا لا يلتقي بآخر، إلا ويكون السؤال عن تشكيل الحكومة ثالثهما؛ يصحب ذلك الاستفسار السنوي الدائم بشأن توقع تشكيلها قبل رأس السنة أو بعده.

لكن، لماذا؟ لماذا يُفترض على أي عاقل أن يهتم لتشكيل أو عدم تشكيل الحكومة؟ ولماذا يُفترض على أي عاقل أن يواصل الاعتقاد أنّ حياته يمكن أن تتغيّر نحو الأفضل أو الأسوأ في حال تشكيل أو عدم تشكيل حكومة؟

هل بين عشرات الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال ما يعزّز هذا الاعتقاد، ولو قليلاً؟ هل يمكن لأحد أن يتذكّر حكومة اختلفت عن حكومة أخرى؟ واستطراداً، هل هناك من يعتقد أنّ المحاسبة كما الإصلاح كما سعر الصرف، يرتبطون بتشكيل أو عدم تشكيل حكومة؟

سبق وأن قُطع الشك باليقين؛ سعر الصرف، كما بناء معامل للكهرباء أو عدم بنائها، كما الدعم أو رفع الدعم، كما الاستدانة أو عدم الاستدانة، كما المحاسبة أو عدم المحاسبة، كما التدقيق الجنائي أو عدم التدقيق الجنائي، كما فتح قنوات تصريف المياه أو فيضان الشوارع بالمياه، كما انعقاد مؤتمر الدعم الدولي أو عدم انعقاد مؤتمر الدعم الدولي؛ جميعها لا ترتبط أو تتأثر بوجود أو عدم وجود حكومة جديدة.

فبعيداً عن صناعة الوهم وتسويقه، ليست الحكومة ما تنقصنا إنّما القرار السياسي: القرار السياسي، مع حكومة أو من دون حكومة، يتحكّم بسعر الصرف. والقرار السياسي، لا الحكومة أو الوزارة أو الوزير، يتحكّم ببناء أو عدم بناء معامل كهرباء. والقرار السياسي، مع حكومة أو من دون حكومة، يتحكّم بإبقاء الدعم أو رفع الدعم أو إيجاد بدائل عن الدعم.

وعليه، دعكم من السؤال العبثي عما إذا كانت ستتشكّل أو لا، والأهم دعكم من الوهم: تشكّلت أم لا، هذا لا يهم ولن يغيّر شيئاً في حياتك كمواطن. ستتغيّر حياة 18 شخصاً الذين سيُعينون وزراء، لكن لن يتغيّر شيء أبداً في حياتك أنت كمواطن.

فمن بعد إضاعة الوقت في التكليف، ثم تسلية التأليف، يأتي البيان الوزاري ثم فترة السماح، لتنتهي الحكومة الجديدة تماماً حيث انتهت جميع الحكومات القديمة؛ عفن فوق عفن، في غياب القرار السياسي.

والسؤال الأساسي بالتالي، هو متى يتغيّر القرار السياسي؟ متى تقرّر الطبقة السياسية مغادرة هذه السلبية المطلقة التي تُراوح فيها؟ متى تقرّر أن تفعل شيئاً بدل مواصلة الوقوف متفرّجة على هذا الانهيار الأكبر في تاريخ البلد؟ أن تفعل شيئاً، لا يعني أن تُشكل حكومة؛ تشكيل الحكومة ما هو إلا هروب إضافي إلى الأمام، نحو تضييع مزيد من الوقت.

الـ”شيء” الذي يحتاجه كل مواطن، لا يمرّ بالحكومة ولا يحتاج إلى قرارات حكومية، إنّما إلى قرار سياسي.
أين هو هذا القرار السياسي؟ ما تبقى من قوى 14 آذار غير معنيين طبعاً باتخاذ القرار أو حتى بتسهيل تنفيذه، فهم يحتفلون بالانهيار. لكن ماذا عن ما تبقى من قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر؟ ماذا ينتظرون هم لاتخاذ قرار سياسي بمواجهة الانهيار أو الحد من تداعياته، بعيداً عن جهود حزب الله لتحصين بيئته حصراً؟

موقف 14 آذار مفهوم، أما موقف 8 آذار فغير مفهوم أبداً. هناك من يهدّدهم بتدمير كل شيء، فيقولون له: نعم؛ نعم؛ دمّر كل شيء و”يدلّونه” على حجارة الزاوية ليزعزعها بدل أن يركضوا لتدعيمها وتثبيت ما يمكن تثبيته.

وخذوا هنا – مثلاً – ملف رفع الدعم: تزامناً مع الحديث عن رفع الدعم، كثر الحديث عن حلول جانبية رسمية أخرى للأسر الفقيرة والمتوسطة؛ هل تم التقدّم رسمياً خطوة واحدة إلى الأمام؟ طبعاً لا. المرجعيات السياسية لوزيري الاقتصاد والشؤون الاجتماعية “مش فاضية” أو مشغولة بما هو أهم، ربما.

ألا تلوح في الأفق مشكلة جدية تتعلّق بتأمين الوزارات لعدد كبير جداً من الاحتياجات الضرورية لتشغيل المرافق العامة، أبرزها المحروقات؟ نعم طبعاً. هل قدّم المطبخ السياسي لهذه الأحزاب السياسية مشاريعاً بديلة يمكن الإقلاع فوراً فيها؟ طبعاً لا. يبشّرونهم بالانهيار، فيفتحون أذرعهم لغمره وتقبيله واستقباله بالورود.
تتشكّل حكومة أو لا، غير مهم. المهم هو أن يشعر أحد ما في طول هذه الجمهورية وعرضها أنّه عليه أن يفعل شيء.

ولنسلّم  جدلاً هنا، أنّ ثمة مؤامرة على البلد لتدميره؛ كيف تُواجه هذه المؤامرة؟ باتخاذ قرار سياسي بالدفاع عن البلد وحمايته ومنع تدميره أو بالوقوف متفرجين؟ أو بملاقاة القوى التدميرية في منتصف الطريق لمساعدتهم؟ اليوم، الأداء يؤكد أن الخيار الثالث هو المعتمد.

غسان سعود

غسان سعود

كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى