منوعات

التدقيق الجنائي أمام مفصل تاريخي

وجّه رئيس الجمهورية رسالة، وفق صلاحياته الدستورية إلى المجلس النيابي، طالباً “التعاون مع السلطة الإجرائية من أجل تمكين ​الدولة​ من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف ​لبنان​، وانسحاب هذا التدقيق بمعاييره الدولية كافة، إلى سائر مرافق الدولة العامة، تحقيقًا للإصلاح المطلوب، وبرامج المساعدات التي يحتاج إليها لبنان في وضعه الراهن والخانق.

وذلك كي لا يصبح لبنان، لا سمح الله، في عداد الدول المارقة أو الفاشلة في نظر المجتمع الدولي، مع خطورة التداعيات الناجمة عن سقوط الدولة اللبنانية في محظور عدم التمكن من المكاشفة والمساءلة والمحاسبة، بعد تحديد مكامن الهدر والفساد الماليين، اللذين قضيا على الأموال الخاصة والأموال العامة معاً”.

لبنان في المنظور الدولي

في البداية، نؤكد أننا أصبحنا دولة فاشلة ومارقة في نظر المجتمع الدولي، منذ لحظة إعلان الحكومة في آذار التوقف عن دفع سندات اليوروبوند. وكان من نتيجتها تخفيض التصنيف الائتماني للبنان إلى أدنى سلم الترتيب، مّما يعني التعثر المالي؛ وهذا بمثابة شهادة من المجتمع الدولي على فشل الدولة اللبنانية.

والأهم من ذلك، هي شهادة المواطنين اللبنانيين أنفسهم ونظرتهم إلى دولتهم؛ فهي بنظرهم أصبحت أكثر من فاشلة ويتمنون أن تصبح مارقة في التاريخ، وأن لا تبقى في المستقبل بنظامها الحالي الفاشل والصيغة المهترئة.

ومن الخطأ أن نحصر مكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين بالتدقيق الجنائي فحسب، وفتح مجالس العزاء والندب والنواح لاعتذار الشركة المولجة به والتوقف عن التدقيق. إنّ مكافحة الفساد عملية مستدامة لا يرتبط مسارها بتدقيق من هنا وتحقيق من هناك، بل هي من صلب النظام السياسي والمتطلبات الاقتصادية والحماية الاجتماعية لأي دولة لأنها الدعامة والبنية لقيامها.

لا نوايا حقيقية لإجراء تدقيق

لو صدقت النوايا تجاه التدقيق الجنائي، لتوافرت عوامل إنجاحه منذ اللحظة الأولى لإقراره في مجلس الوزراء وتم تحصينه بكل ما يلزم من مستلزمات تشريعية ومراسيم تنفيذية وإجراءات عملية. وبما أن السيف لم يسبق العدل حتى الآن، حيث بالإمكان تدراك العقبات والعراقيل أمام التدقيق الجنائي والكشف عن المفسدين ومحاسبتهم، فإنّ المجلس النيابي أمام موقف تاريخي مفصلي في الحياة السياسية اللبنانية، يعادل استقلال لبنان عن فرنسا ونحن في رحاب الاحتفال به. إنّ التدقيق الجنائي ومحاسبة منظومة الفساد تعادل في أهميتها اتفاق الطائف، الذي أسس لانتهاء حقبة حمراء من التاريخ اللبناني والبدء بمرحلة الإنماء والإعمار.

التدقيق الجنائي سيمهد لانتهاء حقبة سوداء، يتمنى كل لبناني بحذفها من ذاكرته القريبة والبعيدة، ورؤية منظومة الفساد وراء القضبان بسبب ما جنوه على معيشة الناس ورفاهيتهم ومستقبل أولادهم.

أين دور مجلس النواب؟

ممثلو الشعب اللبناني والأمة اللبنانية أمام محكّ خطير للتعبير عن أحلام وتطلعات وآهات وأنّات وبكاء أطفال، الذين أوكلوهم في الدفاع عن حقوقهم. الوضع الاجتماعي والمعيشي من الكارثية والمأساوية بمكان يستصرخ ضمائر ممثلي الشعب في وضع  كل حساباتهم الضيقة جانباً وإنقاذ ما تبقى من السفينة الغارقة.

وهذا يتطلب منهم إقرار التشريعات والقوانين اللازمة لإزالة العراقيل من القيام بتدقيق شفاف وموضوعي، من تكليف شركة ثانية عبر مجلس الوزراء المستقيل، وفق عقد واضح البنود والمعالم ولا يحمل في طياته إفشاله؛ إلى تعديل أو اقتراح قوانين للكشف عما يلزم من مستندات ومعلومات دون التذرع بقانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف، وصولاً إلى تشريعات تفعّل من عمل القضاء وتوفر الغطاء القانوني لاستقلاليته وحياده الموضوعي.

يستطيع المجلس النيابي، وبما يملك من صلاحيات دستورية وقانونية تشكيل لجنة نيابية للإشراف، ومتابعة آليات التدقيق الجنائي خارج نطاق ” اللجان مقبرة القرارات”، لأنهم هم مصدر كل السلطات والمؤسسات بسبب الوكالة الشعبية لهم.

الشعب اللبناني ينتظر وبشغف، نتائج جلسة المجلس النيابي الجمعة، ويأمل خيراً بالضمير الحيّ لبعض من أصواته، وإلا فإنّ السفينة تغرق بالجميع والتاريخ والشعب لن يرحم.

   د.أيمن عمر

 

أيمن عمر

كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية محاضر في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية له العديد من الأبحاث والمؤلفا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى