“أحوال” من كاراباخ الى يريفان: قصص حيّة لنازحين وجرحى منهم لبنانيون
ثلاثيّة إنسانيّة مؤلمة في كل حرب، والألم لا يعني الحزن حتماً، إنّها ثلاثيّة: النّزوح أو الإصابة أو الموت. كل من اختبر أحد أوجهها، حفرت في لاوعيه تاركة ندوباً أو جراحاً عميقة رافقته مدى العمر وطبعت طِبَاعه ونحن اللبنانيون خير مثال.
فما إن وصلنا في ساعة متأخّرة من الليل الى الفندق في غوريس آخر البلدات الأرمنية المتاخمة لجمهورية “أرتساخ” حتى وجدناه يعجّ بالنازحين منها: أطفال، نساء وعجزة كما معظم الأماكن والبيوت.
نزحت وأطفالها تاركة زوجاً وأشقاء على الجبهات
حياكة الصّوف قاتلة الوقت وساعات القلق الطويلة حيث عدد كبير من النازحات يمارسنها، وقع نظرنا على عجوز صمتها أشدّ بلاغة من الكلام وتجاعيد وجهها الجميل تختزن معاناة شعب وأوجاعه.
“الرجال يلبّون نداء الواجب دفاعاً عن الارض والحقوق والهوية والتاريخ. جميعهم إما على جبهات القتال أو في الخطوط الخلفية يؤمّنون المساعدات اللوجيستية. معهم عدد من النساء المقاتلات أو اللواتي يساعدن في قطاعات عدة”، هكذا أجابتنا صبية في العشرينات من العمر نزحت وأطفالها الاربعة تاركة زوجاً وأشقاء يقاتلون في كاراباخ. تضيف: “لولا السعي لتوفير الحماية لأطفالي من القذائف، من جلسة الملجأ وتداعياتها النفسية عليهم ومن شبح صفارات الإنذار التي ما زالت تتردّد في آذانهم هنا، لما تركت هناك”.
أطفال عيونهم تحكي الكثير
مشهد النازحين – وتحديداً الاطفال منهم – أعادني بالذاكرة الى طفولتي. صحيح أننا لم نتهجّر من بلدتنا البقاعية دير الاحمر وتَرْكِنا لسكننا في مدينة جونية الكسروانية كان لفترات محدودة خصوصاً في حربي التحرير و”الإلغاء” في نهاية الثمانينات، ولكن صور مهجّري الدامور الذي سكنوا في دير للارمن في المدينة ومهجّري بيت ملات وبعض القرى العكارية الذين توزّعوا في صفوف “دار المعلمين” حضرت أمامي. فهي في الأساس مطبوعة ليس حسب في ذاكرتي بل في وجداني أيضاً. صور أطفال يضجون ويلعبون وعلى الصعاب والحرمان يدمنون.
ببراءة بادر بعض الاطفال الارمن الى السلام وهم بالكاد يدركون بعض الكلمات الإنكليزية، لكنّ عيونهم كانت تحكي الكثير.
بصمات الحرب في جسمه وقلبه
22 نيسان 1994، تاريخ حفر في جسد رافي أراكليان النازح من بلدة مارداغرد التي تبعد 42 كلم عن العاصمة ستيباناغرد. إبن التاسعة والستين عاماً أصيب في المعارك يومها وبترت رجله، فأضحى عكازه رفيق العمر الذي كتب له. لكنّه تعرّض لإصابة أشدّ إيلاماً ذاك العام وهي إستشهاد أحد أبنائه.
ملامح وجه أراكليان تغيّرت بمجرد أن سألناه إن كان نادماً، فجزم بالنفي مؤكداً انه لو يسمح له وضعه الصحي بالقتال لتوجّه الى الجبهة فوراً ولكن ما يعزيه أن جميع أبنائه وأحفاده على الجبهات يقاتلون.
l
شرّع فندقه لإحتضان النازحين مجّاناً
ما إن إندلعت المعركة حتى سارع سانيك جولهاكيان تاركاً تشيكيا حيث يعيش منذ فترة طويلة كرجل أعمال يتاجر بالكريستال وأتى الى البلدة كي يضع الفندق الذي يملكه في خدمة النازحين.
جولهاكيان متزوّج ولديه خمسة أولاد، قبل أن يتضح لنا في مجرى اللقاء أنهم أربعة والخامس هو إبن شقيقه الذي إستشهد عام 1994 – يبلغ اليوم من العمر 26 عاماً وأولاده من 15 عاماً الى عامين – وقد إصطحبهم جميعاً معه الى غوريس لإيمانه أنه “ليس باستطاعتهم أن يكونوا أرمن إن لم يعيشوا عن قرب قضية أرتساخ وعذابات شعبها”.
إستثمار جولهاكيان في الفندق الذي رمّمه بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي هو لتشجيع السياحة في منطقة فيها آثار تعود لألاف السنوات ولخلق فرص عمل للأهالي للثبات في أرضهم. كما أنه بدأ العمل على إنشاء تيليفريك في بلدته خنتوريسك المجاورة في إطار تشجيع الحكومة للاستثمار في المنطقة حيث توجد حفريات جديدة وتم العثور على آثار مهمة يعرض بعضها في الفندق بعدما سجلتها وزارة الثقافة وهي عبارة عن أدوات لصنع النبيذ وصناعة الجبن وأدوات طبية وحُلِي. كما أشار الى أنه تمّ العثور على مسرح أثاري أمام الفندق.
ويختم جولهاكيان: “نحن أصحاب قضية عادلة ونناضل من أجل الارض في كافة الوسائل. إستثماراتي في هذا الاطار وتشريع ابواب الفندق لأهلي النازحين أقل الإيمان من أجل الوقوف الى جانبهم”. ليتبين لنا لاحقاً أن جولهاكيان لعب دوراً في العام 2015 حين إعترفت تشيكيا بالمجازر التي تعرض لها الأرمن كإبادة.
تعتيم على الجرحى وبينهم لبنانيون
لا يسمح لوسائل الاعلام بزيارة المستشفيات لتصوير الجرحى، وقد أكد لنا الناطق باسم وزارة الدفاع الأرمينية أن ذلك يعيق عمل الطواقم الطبية. هذا إذا ما أضيف اليه جائحة كورونا والإعتبارات الأمنية والنفسية. لكن تشاء الصدف أن تتلقى إحدى الزميلات إتصالاً قبيل منتصف الليل من بيروت يحاول الاستفسار عن شاب لبناني ثلاثيني من أصل أرمني يدعى هرير يقاتل ومجموعة أتت من بيروت إنقطع الاتصال به من قبل أهله منذ 24 ساعة. فسارع رئيس حزب الرامغافار سيفاك أكوبيان لإجراء سلسلة إتصالات تبين منها أنه مصاب في رجله وسينقل في اليوم التالي الى يريفان، فسارعنا الى تطمين الاهل.
يرابلور تلّة شهداء كاراباخ تجدّد شبابها
أحد أوجه الثلاثية الإنسانية المؤلمة في كل حرب كما ذكرنا هو الموت الذي يفترس البشر بين ضحايا وشهداء. كما أن قوة أي قضية وديمومتها مرتبطتان بمدى إجلالها لشهدائها.
في هذا الاطار، وفي خطوة شبيهة بتكريس تلة تسيتسيرناكابيرد في يريفان لتخليد ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية، إختار الأرمن منذ العام 1988 تلّة يرابلور Yerablur في ضواحي العاصمة لتحتضن من يستشهدون في سبيل كاراباخ إلى جانب بعض القادة الرموز والأبطال المشهورين لدى الشعب الارمني وفي مقدمهم ندرانيك أوزانيان – وكان قائداَ عسكرياً وشخصية رئيسية في حركة التحرر الوطني الأرمنية – الذي توفي عام 1927 وقد نقلت رفاته اليها عام 2000.
زرنا يرابلور – التي ضمت قبل الحرب الاخيرة نحو 750 ضريحاً – حيث رهبة الشهادة حاضرة وجددت شبابها مع الحرب الاخيرة في أرتساخ. حرمة الموت حالت دون تصويرنا عن قرب القبور التي كانت تحفر حيناها أو أضرحة شهداء جدد وأهلهم المفجوعين أمامها. فإلتقطت عدستنا بخوراً وزهوراً على أضرحة شهداء مضى على رحيلهم عشرات السنين.
هكذا إختتمنا زيارتنا لأرمينيا، وفي وجداننا صورة عن شعب قد تشاركه قضيته أو قد تختلف معه حولها، لكن لا يمكن إلا ان تقدّر نضاله المحفور على الجباه في سبيل قناعاته وتمسّكه بأرضه وتقديسه لشهدائه.