كانت فلسفة اللّجوء إلى التدقيق الجنائي ترتكز على معرفة كيفية فقدان 115 مليار دولار من ودائع الناس، ولماذا تبخرت خلال أشهر قليلة ولضرورة المساءلة عمّا أدى إلى انهيار البلد وتدهور العملة الوطنية تدهورت على أن يعقب ذلك استعادة حقوق الناس.
ويبني لبنان بأكمله آمالاً على التحقيق الجنائي باعتباره سيكشف مسببي الانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي ومنظومة الفساد وإنزال العقوبات بأفرادها، ولكن العقد بحسب المراقبين جاء مليئاً بالثغرات أهمّها عدم جواز التدقيق بحسابات مصرف لبنان تحت حجة السرية المصرفية ما خفض الآمال بنجاعة هذا الإجراء لولا وجود الرقابة الدولية.
فريق عمل شركة التدقيق الجنائي Alvarez&Marsal برئاسة جيمس دانيال حول التدقيق في حسابات مصرف لبنان باشر اجتماعاته في لبنان، وبدأها مع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزير المالية غازي وزني وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وبحسب المعلومات، تطرّق الاجتماع الى الآلية التي سيعتمدها خبراء الشركة مع بدء عملهم لإنجاز التقرير الجنائي الأولي في مصرف لبنان في الأسابيع المقبلة. واطلع وزني من وفد الشركة على جدول اللّقاءات التي ستُعقد مع المسؤولين اللّبنانيين لجمع المعلومات المطلوبة لبدء عملية التدقيق. ولاحقاً ناقش الوفد مع سلامة آلية العمل والتنسيق بين الشركة والمركزي.
وفيما لفتت مصادر لـ”أحوال” أن سلامة أبدى تجاوباً في تقديم المعلومات المالية التي تطلبها الشركة مباشرةً، إلا أنه تريّث في بت كيفية التعاطي مع المعلومات الخاضعة للسرية المصرفية وسيجري مزيداً من البحث حولها.
ويلتقي فريق الشركة أيضاً مع لجنة الرقابة على المصارف تنفيذاً للاتفاق، الذي وقعه
وزير المال في الحكومة المستقيلة غازي وزني مع الشركة مطلع أيلول الماضي، ووفقاً لقرار مجلس الوزراء بتاريخ 28/7/2020 من أجل إنجاز التدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي.
حاجز السرية المصرفية
يجمع الخبراء الذين استطلعتهم “أحوال” أن قانوني “السرية المصرفية” و”النقد والتسليف” يمنعان إعطاء معلومات مالية ونقدية لأي شخص أو شركة غير مسموح لها الاطلاع على هذه المعلومات وبالتحديد موظّفي مصرف لبنان. وبالتالي هناك استحالة بحسب هؤلاء القيام بأي نوع من أنواع التدقيق الجنائي في ظل غياب تعديل هذين القانونين. هذه الحجّة بالتحديد قد تقف عائقًا أمام تحقيق تدقيق جنائي في مصرف لبنان، وأيضاً الالتزام بقواعد عمل مجموعة خدمات “Egmont” وهي تحالف 165 وحدة استخباراتية مالية تهدف إلى تبادل المعلومات المالية في ما يخص عمليات تبييض الأموال وتمويل الارهاب والتدريب. ويُشارك لبنان في هذه المنظّمة من خلال هيئة التحقيق الخاصة.
لا يرى الوزير السابق زياد بارود في الخطوة تجاوزاً للقانون، ويعتبر أنه من صلاحية الحكومة في إدارة شؤون الدولة ومصرف لبنان هو جزء من الدولة. وبانتظار نتائج التدقيق لا يرغب بارود بوصف التحقيق بالجنائي لأنّ وجود الجرم ليس محسوماً ويفضل أن يسميه التحقيق “المركّز”. ويوضح “القرار قانوني ما دام لا يخالف قانون النقد والتسليف الذي ينظم عمل مصرف لبنان الذي وإن كانت له الصفة العامة لكنه مستقل بحدود كبيرة”. وفيما يلفت إلى أنّ “مرسوم إخضاع بعض المؤسسات لرقابة ديوان المحاسبة استثنى مصرف لبنان، وبالتالي لا يعد هذا تجاوزاً له، وحتى لو كانت الإدارة خاضعة لديوان المحاسبة لا شيء يمنع من إجراء تدقيق مركّز حين يتطلب الأمر ذلك”.
الكشف عن الأموال المنهوبة
كان هدف التدقيق المالي الجنائي هو استخدام الأموال التي نُهبت واستعادة أموال الهندسات الماليّة لردم قسم من الهوّة، أمّا اليوم التدقيق فيبدو إجراءً شكلياً حين يستبعد المسؤولون فرضية استعادة الأموال، فما هي الفكرة من التدقيق؟ المدير العام السابق لوزارة المالية في لبنان آلان بيفاني، الذي أكد مراراً أن الأموال التي هُرّبت قدّرها مصرف لبنان في الورقة المقدمة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون منذ فترة، بأكثر من 25 مليار دولار، قد تكون قاربت 30 مليار دولار. أما التدقيق الجنائي فهو كان رغبة من صندوق النقد قبل المباشرة بالإصلاحات. ويوضح بيفاني أن التدقيق يحدّد الخسائر والأرقام في مصرف لبنان “لنعرف أين ذهبت الأموال وإمكانيّة استعادتها، ولنوضح من استفاد من الهندسات ومن تهريب الأموال إلى الخارج في فترة إقفال المصارف، ففي مصرف لبنان كل الأجوبة على التساؤلات التي تساهم في التصحيح المالي وإطلاق عملية الإصلاح”.
التدقيق الجنائي، يجب أن يبدأ من أين صرفت الأموال؟ بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور باتريك مارديني الذي يرصد ثغرات في عقد التدقيق الجنائي والمالي في مصرف لبنان. ويقول إنه “يجب أن لا تضيع المسؤوليات ولا يصبح عقد التدقيق حبراً على ورق؟.
ويأمل مارديني أن يأخذ التدقيق المالي الجنائي مجراه وبالتالي يتم إنشاء محكمة خاصة بالجرائم المالية لكي تتم محاسبة فعلاً المسؤولين على أن يتوسع التدقيق الجنائي ليطال مؤسسات مختلفة مشتبه فيها بهدر المال العام مثل الكهرباء ومجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب وغيرها”.
تقتضي معالجة المشكلة الاقتصادية في لبنان بمعالجة الفساد المستشري والتحقيق والتدقيق في الأسباب الاقتصادية والمالية والنقدية التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه اليوم، والإصرار على اكتشاف حقيقة النهب المنظم لأموال الناس. والتدقيق الجنائي سيكون بداية الطريق الإصلاحي إذا ما اتكأ على العمل الجدي والشفاف، وهو يجري تحت أعين المجتمع الدّولي لا سيما صندوق النقد الدولي، الذي رحب بانطلاق التحقيق، وفرنسا التي تعطي أولوية كبيرة للإصلاح المالي في لبنان. وبالتالي سيراقبان المعوقات اللّبنانية التي قد تعترض التحقيقة فلا يهدر لبنان أكثر من 2.1 مليون دولار على تدقيق لا يقود إلى حقائق جنائيّة قيّمة في أرقام مصرف لبنان، فيما البلد يحتاج إلى العملة الصعبة.
رانيا برو