لا يُخفى على أحد المؤتمرات التي عُقدت على مدار سنوات لأجل حلّ الأزمات في لبنان برعايةٍ إقليمية ودولية، ولم يتمكن أي مؤتمرٍ من حلها بشكل نهائي: جنيف (1983) ولوزان (1984) والاتفاق الثلاثي (1985) لم يستطيعوا وقف الاقتتال بين اللبنانيين، أمّا اتفاق الطائف (1989) فقد وضع لبنان تحت الوصاية السورية ولكنّه لم يحلّ الأزمات فعلياً، على الأقل بالطريقة التي طُبق بها أو بالأحرى لم يُطبق. ثمَّ خرجت سوريا على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005 وما تبعه من أحداث وقتها، ليعود اللبنانيون إلى المؤتمرات عبر سان كلو (2007) الذي فشل فشلاً ذريعاً. ولم يعود الإستقرار نسبياً إلا بعد مؤتمر الدوحة (2008) الذي استبدل الوصاية الخارجية بـ “حكومات الوحدة الوطنية”، ولكن هذا بدوره كان بذور أزمة لاحقة يعيشها لبنان اليوم.
وإثر انفجار مرفأ بيروت دخلت فرنسا على خط الأزمة اللبنانية مجدداً، الأمر الذي لا يبدو أنّه يقتصر فقط على مبادرة تشكيل حكومة، بل تتحدث القنوات الديبلوماسية الأوروبية عن تحضير مؤتمرٍ جديدٍ يرتكز على عقدٍ سياسيٍ واجتماعيٍ جديد للبنان، فهل تُحلّ العقدة اللبنانية أخيراً؟
إدمون رزق: ليطبقوا الطائف قبل التفكير بمؤتمر أخر
الوزير السابق ادمون رزق، أحد المشاركين بصياغة دستور الطائف، يعتبر في لقاءٍ مع “أحوال” أنَّ لبنان ليس بحاجةٍ إلى مؤتمر عقدٍ سياسيٍ واجتماعيٍ جديد، وأنَّ اتفاق الطائف يكفي ويزيد إن تم تطبيقه. ويرى رزق أنّه عندما عُقد مؤتمر الطائف منذ أكثر من ثلاثين سنة كان هناك أناس مؤهلون للتفاوض، بينما لا تتوفّر هذه الأهلية اليوم، لافتاً أنَّ التمثيل اليوم ليس شعبياً بل هو تمثيل الأمر الواقع. ويردف رزق أنَّ الضمانة الوحيدة للبنان الموحّد هي تطبيق الدستور مع تعديلاته بموجب اتفاق الطائف ووثيقة الاتفاق الوطني، محذراً من نهاية وحدة الكيان اللبناني خارج إطار هذا الاتفاق، “لأنّه سينتج نوعاً من الهيمنة غير المتكافئة في البلد، التي تناقض مبدأ نهائية الوطن لكل أبنائه المنصوصة في اتفاق الطائف”.
حالة من “التكالب” تسود الوطن
ويعتبر رزق أنّه تم عقد عدة حوارات، للأسف تركّزت حول تقاسم الحصص بدل النهوض بالوطن، ويردف أنَّ لبنان اليوم يعيش حالة فراغٍ وطني، معتبراً أنَّ هناك حالة من التكالب على تقاسم بقايا الوطن بدلاً من التكاثف لبنائه، “كأنّهم أعداء الوطن وليسوا أبناءه”.
ويبدي رزق أسفه لعدم إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية بعد انتخاب أول مجلس مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين عام 1992، ويتابع أنّه تم إضافة بند يفرض أن يكون بين أعضائها شخصيات فكرية واجتماعية للتأكيد على أنَّ المطلوب هو تنشئة المواطن على اللاطائفية، معبتراً أنَّ كل الطواقم المستنسخة بعد اتفاق الطائف يشوبها عيب الجهالة وعدم الكفاءة وسوء النية. وينفي رزق فرضية نجاح أيّ مؤتمر، “لأنّه سيتمحور حول تقاسم الحصص فقط، ممّا يعيد البلد إلى الرجعية بدلاً من أن يتقدم به نحو الدولة المدنية، التي هي روح اتفاق الطائف”.
رضوان عقيل: المناخ غير مهيئ لـ “طائفٍ” جديد
الصحافي والكاتب السياسي في جريدة النهار رضوان عقيل يعتبر في حديثٍ لـ “أحوال” أنَّ المناخ في لبنان والمنطقة غير مهيئ لعقد مؤتمرٍ من عيار الطائف، فأولاً البيئة الداخلية تعاني من انقسامٍ طائفيٍ حاد، بل أسوأ انقسام مذهبي، وثانياً هذه المؤتمرات تحتاج إلى غطاءٍ عربيٍ وإقليميٍ ودولي وهو أمر غير متوفر اليوم. ويتابع عقيل أنّ الجانب الفرنسي لم يُقرر بعد إمكانية عقد هكذا نوع من المؤتمرات، لأنَّ أولوياته هي انقاذ ما تبقى من إداراتٍ ومؤسساتٍ لبنانية عبر تشكيل حكومة تعالج الملفات الملحة، من الأزمة الاقتصادية والمالية، إلى التعاطي مع صندوق النقد الدولي مروراً برسم السياسة المصرفية والمالية في البلد، وعندها سيكون هناك أولوية لعقد مؤتمرٍ لدعم لبنان، ويتأسف عقيل أنَّ هذا الأمر ليس ممكناً إلا عبر التدخل الخارجي (فرنسا) بسبب فشل القوى السياسية اللبنانية.
المثالثة غير واردة
أما بحال عُقد هكذا مؤتمر يستبعد عقيل أنّ تُطرح المثالثة كحلٍ للأزمة، معبتراً أنّها لم تُطرح فعلياً في مؤتمر “سان كلو”، وكانت فقط عبارة عن مناقشاتٍ وعصفٍ فكريٍ سياسيٍ من قبل بعض المستشارين الإيرانيين واللبنانيين وبعض الساسة، ولكن لم يطرحه لا الثنائي أمل وحزب الله، ولا حتى المكونات السنية، إذ سيشكّل ضربة للمكوّن المسيحي الذي يرفض مبدأ المثالثة رفضاً قاطعاً، لافتاً أنّ بكركي ستكون لها الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع، التي ترفض، ومعها عدة مكوّنات مسيحية، أي نوع من المناقشة بالدستور بوجود السلاح.
ويرى عقيل أنّه رغم الخلاف بين أكبر حزبين مسيحيين (القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر) والتباعد الحاصل بينهما، إلا أنّهما متفقان على إبقاء قانون الانتخاب الحالي كما هو، وذلك لأنّه يوفر الإتيان بما لا يقل عن 50-55 نائباً بأصوات مسيحية صافية دون الحاجة إلى شريكٍ مسلم.
ويردف عقيل أنّه بحال اتجهت الأمور نحو عقد هكذا مؤتمر، فهو لا يمكن انعقاده بدون اللاعبين الإقليميين والدوليين الأساسيين في الساحة اللبنانية، أيّ السعودية وإيران وتتصدرهما فرنسا والويلايات المتحدة الأميركية.
ومن جهة أخرى، يعتبر عقيل أنًّ تطبيق اتفاق الطائف عبر إنشاء مجلس الشيوخ وتطبيق اللامركزية الإدارية كمدخلٍ لحل الأزمات في لبنان، أفضل وأسهل بكثير من الذهاب نحو مؤتمرٍ بحجم الطائف أو غيره، لافتاً أنَّ أي مؤتمر جديد من هذا النوع سيكون أشبه بحلقاتٍ فكرية لمجموعة من النخب من مختلف الطوائف لا أكثر.
يختلف اللبنانيون، ينقسمون، أحياناً يقتلون بعضهم البعض، يستنجدون بالمجتمع الدولي والدول الإقليمية لحل الخلاف، تُعقد المؤتمرات، يتفقون فيها على الحل، يتحايلون على الاتفاق، ينقضون به، ويختلفون من جديد… حلقة مفرغة تدور منذ عشرات السنين، ولن تنتهي إلا بعد أن تتواضع كل الأطراف بالتوقف عن الاستئثار بالحكم.
محمد شمس الدين