يعد رأس المال البشري المحرّك الحقيقي للاقتصادات الجديدة، مما يتطلب من الجميع حمايته واستثماره، خاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي سببتها جائحة فيروس كورونا المُستجد غير المسبوقة.
إن جائحة كورونا وعمليات الإغلاق الاقتصادي توجهان ضربة قاسية للاقتصاد العالمي، ولاسيما البلدان النامية والفقيرة، واتخاذ خطوات لتسريع وتيرة التعافي بعد أن مرَّ أسوأ ما في الأزمة الصحية، والتخفيف من الآثار السلبية طويلة الأجل يحتاج جهوداً جبارة للنهوض.
بعد انتهاء جائحة كورونا ستتسابق دول العالم لتعويض خسائرها الاقتصادية فهل سيكون نصيب من ذلك في تجهيز الخطط والابتكارات وتأهيل رأس المال البشري بفتح المزيد من المشاريع وزيادة فرص العمل؟.
“رأس المال البشري” مصطلح صاغه غاري بيكر، عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل والمحاضر في جامعة شيكاغو في خمسينات القرن الماضي، ويقصد به مخزون المعرفة والعادات والسمات الاجتماعية والشخصية، بما في ذلك الإبداع، المتمثل في القدرة على أداء العمل لإنتاج قيمة اقتصادية.
وهذا المخزون في تعريفات عالم الاقتصاد والمال جميع أشكال المعرفة والمواهب والمهارات والقدرات والخبرات والتدريب والحكم، والحكمة التي يمتلكها بشكل فردي وجماعي الأفراد في عدد من السكان. هذه الموارد هي القدرة الكلية للشعب الذي يمثل شكلاً من أشكال الثروة التي يمكن توجيهها لتحقيق أهداف الأمة أو الدولة أو جزء من تلك الأهداف.
الاهتمام بهذا الرأسمال كان محور دراسة تحليلية جديدة أصدرتها مجموعة البنك الدولي وفيها تأكيد أن جائحة فيروس كورونا المستجد تهدد المكاسب التي تحققت في مجالي الصحة والتعليم على مدى العقد الماضي، خاصة في أشد بلدان العالم فقراً، حيث أن الاستثمارات في رأس المال البشري، التي تشمل المعارف والمهارات والصحة، التي تتراكم لدى البشر على مدى حياتهم، هي الأساس لتعزيز إمكانات عقول الشباب وزيادة النمو الاقتصادي في كل بلد.
يشدّد شاران بورون الأمين العام للاتحاد الدولي للنقابات العمالية، على وجوب أن يكون العالم بعد كوفيد 19 أكثر شمولاً ومرونة واستدامة، لافتاً إلى أننا نعيش عالماً فيه عدم المساواة بين الدول نتيجة لتسابق الشركات إلى القاع وتفشي الفقر بين القوى العاملة. لافتاً إلى أن عدد كبير من الدول عانت من الصدمات نتيجة كوفيد 19 بسبب غياب الحماية الاجتماعية الشاملة الأنظمة الصحية أو اقتصاد مستدام بوظائف عالية الجودة.
ويجد بورون أن خيار النهوض من آثار الوباء هو التآزر الدولي والعمل الجماعي للاستثمار في مستقبل الصحة والتعليم والاقتصاد العالمي”.
رأس المال البشري وحده لا يكفي
بالنسبة إلى لبنان رأس المال البشري موجود لكن وحده لا يكفي لتحقيق التنمية، يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الحليم فضل الله رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق في دراسة صادرة عن المركز، حول ذلك “إن تحقيق قفزة في النمو والتنمية لا يرتبط فقط بتحقيق تراكم جيد للرأسمال البشري، بل يعتمد على أمرين آخرين هما استمرارية وتوسع هذا الرأسمال، ومدى نجاح المجتمع في استخدامه. وهذا يحيلنا إلى المنهجيات المتعددة في قياس وتحديد الرأسمال البشري، والتي يمكن اختصارها باتجاهين رئيسيين:
الأول: ويعبّر عنه المؤشر الذي اعتمده تقرير “التنافسية العربية” الصادر عن “المعهد العربي للتخطيط”، كواحد من ثلاثة مؤشرات فرعية تشكل ما سمّاه “مؤشر التنافسية الكامنة». ويعتمد هذا المؤشر في قياس الرأسمال البشري على العوامل الآتية: معدل الانخراط الصافي في التعليم الثانوي والجامعي، معدل الحياة المتوقعة، الإلمام بالقراءة والكتابة لدى الكبار، والإنفاق على التعليم.
الثاني: ويوصف بالاتجاه الديناميكي والشامل لاختياره متغيرات “تعكس الأبعاد المختلفة لرأس المال البشري” وهي: القدرات الكامنة، اكتساب المهارات، الإتاحة والفاعلية”. أهمية هذا الاتجاه أنه لا يهتم فقط بتحديد رصيد الموارد البشرية الحالي، بل يعنى أيضاً بما سيكون عليه في المستقبل وطريقة الاستفادة منه ومدى الهدر الواقع أثناء استخدامه”.
استثمار رأس المال البشري المتمثل بالكفاءات البشرية الوطنية من خريجي الجامعات والمعاهد والحرفيين والمتدربين. وتهيئة فرص الاستثمار الداخلية والخارجية أصبح ضرورة في ظل الوضع الحالي المتمركز على أحادية الدخل في الدولة، كما يجمع الخبراء.
كساد كبير
وفي دراسة البنك الدولي، تسبَّبت صدمة جائحة كورونا بكساد حاد في الكثير من البلدان. وانكماش نسبته 5.2% من إجمالي الناتج المحلي العالمي في عام 2020، وهو أشد كساد يشهده العالم منذ عقود. وسيتراجع متوسط نصيب الفرد من الدخل. ما يسلط الضوء على الحاجة الملحة لخطوات حاسمة لتخفيف عواقبها وآثارها، وحماية الفئات الضعيفة والأولى بالرعاية من السكان، وتحسين قدرة البلدان على التصدي لأحداث مماثلة في المستقبل. ومن الضروري أيضا التصدي للتحديات الناجمة عن اتساع نطاق الاقتصاد غير الرسمي ومحدودية شبكات الأمان وإجراء الإصلاحات التي تكفل تحقيق نمو قوي ومستدام.
وتضمن مؤشر رأس المال البشري 2020 الذي وضعته مجموعة البنك الدولي بيانات عن الصحة والتعليم في 174 بلداً تغطي 98%من سكان العالم، وتكشف البيانات غياب التوزيع العادل لخدمات التعليم والصحة ما قبل وما بعد كورونا ما يهدد رأس المال البشري وبالتالي النمو الاقتصادي.
عقد اجتماعي جديد
يحتاج العالم إلى عمالة كاملة وعقداً اجتماعياً جديداً يشمل الاستثمار في اقتصاد الرعاية والتعليم والبنية التحتية. ويجب أن يرافق ذلك سياسة أجور ومفاوضات جماعية وتنظيم سوق العمل وإحياء الطلب على الاستهلاك”.
التوحش الاقتصادي وغياب العدالة الاجتماعية وانعدام الفرص المتكافئة والمداخيل غير المتكافئة كلّها شكلت عواملاً أساسية في انعدام المشاريع المستدامة التي تؤمن عيشاً كريماً لليد العاملة في رأس المال البشري.
يجد دانيال ساسكيند، أستاذ مادة الاقتصاد بكلية باليول في جامعة أوكسفورد هذه الأزمة “مقلقة لأنها تحتوي على العديد من الميزات الجديدة وغير المألوفة. حالة طوارئ طبية عالمية ناجمة عن فيروس لا نزال لا نفهمه بالكامل. إنها كارثة اقتصادية ذاتية الأسباب كردة فعل ضرورية لاحتواء انتشار الوباء. ومع مرور الوقت أصبح من الواضح أيضاً عدوى كوفيد-19 ونتائجها تعكس عدم المساواة الاقتصادية القائمة مسبقاً”.
وتابع في دردشة عبر الانترنت مع “أحوال” هناك اختًلالات ملحوظة بين القيمة الاجتماعية لما يفعله “العمال الرئيسيون” والأجور المنخفضة التي يتلقونها نتيجة الفشل المألوف للسوق أن الفشل في ذلك هو التمسك بنظرية “بلدي أولاً” دون الاهتمام الجماعي بمعالجة الأخطاء سوياً”.
كيف سيبدو العالم بعد كوفيد-19؟ العديد من المشاكل التي سنواجهها في العقد القادم
ستكون ببساطة أكثر تطرّفاً من تلك التي نواجهها اليوم. سيبدو العالم مختلفاً بشكل كبير هذه المرة فقط إذا قررنا اتخاذ إجراءات لحل هذه المشاكل وإحداث تغيير أساسي مع خروجنا من هذه الأزمة”.
من جهتها تقدّم مجموعة البنك الدولي لتخفيف أعباء الأزمة الاقتصادية، ما يصل إلى 160 مليار دولار من الموارد المالية على مدى 15 شهراً لمساعدة أكثر من 100 بلد حماية الفئات الفقيرة والمحرومة، ومساندة الشركات، وتعزيز الانتعاش الاقتصادي، ويشمل ذلك 50 مليار دولار من الموارد الجديدة من المؤسسة الدولية للتنمية في شكل منح أو قروض ميسرة للغاية.
رانيا برو