إلى لجنة مهرجانات بعلبك: تعبتم وأنجزتم… لكن رجاءً لا تعيدوها
توقعناها حفلة تشبه حفلة العام الماضي التي أقيمت بمناسبة مئويّة لبنان الكبير، يومها كان الدولار يشهد ارتفاعاً صاروخياً، وكان كورونا لا يزال ضيفاً جديداً لا نعرف خيره من شرّه، وكنّا نترقّب الانحدار نحو الهاوية، وكان المزاج الشّعبي في مكان أبعد ما يكون عن الفن والموسيقى والرّقص، إلا أنّ الحفل الذي أقامته لجنة “مهرجانات بعلبك الدوليّة” في القلعة الأثريّة، تحت عنوان “شمس لبنان ما بتغيب” كان مخيباً للآمال.
كالطّائر يرقص مذبوحاً من الألم كان اللبناني يشاهد الحدث الجلل العام الماضي ويصفّق، أما اليوم، فكان الوضع مختلفاً تماماً، تسلّل الملل من الشاشات التي اجتمعت لتبثّ الحفل نفسه، لا شعطة إبداع، ولا لوحات تثير الدهشة، ولا فضول يستفزّ المشاهد ليسأل عن من يقف وراء هذه المشاهد المركّبة التي عُرضت في إطار حفلٍ توقّعناه بمستوى حفل العام الماضي، فجاء باهتاً رغم الألوان، بارداً رغم سخونة الطّقس، هادئاً رغم صخب الموسيقى.
أرادته لجنة المهرجانات مناسبة لتسليط الضّوء على مواهب الموسيقيّين والمغنّين والملحنين اللبنانيّين الشباب، الذين لم تسنح لهم الفرص مؤخّراً لتقديم رؤيتهم وعرض أعمالهم أمام الجمهور.
يستحق هذا الحفل أن يُعطى أعذاراً تخفيفيّة، فالوضع في لبنان ليس مؤاتياً لشيء، ولا يحفّز على الإبداع، والجو العام لا يشجّع إلا على الإحباط والتقوقع والانزواء في ركن منعزل بانتظار مصيبة جديدة، تجعل من رؤية ما شاهدناه على أدراج بعلبك “الله يجعلها أكبر المصايب”.
بدأ الحفل الذي وحّد الشاشات اللبنانية، باستعراض الفنانين المشاركين، لا يعرف منهم الجمهور سوى زياد سحاب، وأسماء بعض المخرجين الذين تولّوا توقيع الحفل، أما المغنّين فمعظمهم نسمع به للمرّة الأولى، لم يتركوا أثراً خلال الحفل ولا بعده.
غنّوا، نشّزوا، شوّهوا أغاني راسخة في الذّاكرة، حتى “نقّيلي أحلى زهرة” للراحل زكي ناصيف استحالت إلى أغنية جديدة أراد المغنّون تجديدها، فكانت النتيجة كارثيّة.
ابتكروا كلمات ظنناها أجنبية لنكتشف أنّها عربية غير مفهومة. البعض غنّى بالفرنسيّة والبعض بالإنكليزيّة، أنماطاً موسيقياً متجدّدة، تجعل البعض ينظر إلى المنتقدين بعين “إنتو شو بيفهمكن بالموسيقى؟”.
الجمهور في المنازل يختلف عن جمهور يقصد الحانات الليليّة ليستمع إلى أنماطٍ موسيقيّة جديدة، لم تراعِ لجنة مهرجانات بعلبك ذائقة الجمهور، الذي يتابع مسلسلاته وبرامجه السياسيّة بعد نشرة الأخبار، فسقط الحفل عليه كزائر غير مرغوب فيه، أعطاه أعذاراً تخفيفيّة، أنّه جاء في عصر لا يزور فيه أحدٌ أحداً، وأنّ القصد كان طيباً لكنّ النّتيجة كانت “يا بخت مين زار وخفّف”.
ضجيج، ضوضاء، صخب، لكنّ الحفل كان بارداً.
فنّانون على مدّ عينك والنّظر، بالعادة يكون الجمهور على مد عينك والنّظر، لكن المشهد بدا كئيباً، وكأن كل فنّان يجري بروفا وحيداً، يقال لمعظمهم بعدها، مكانك ليس في بعلبك، ولا على أدراجها وبالتّأكيد ليس على الشاشة.
لكنّنا في زمن كورونا وما تبقّى من التّباعد الاجتماعي، في زمن انهيار الفن بعد سنتين من الموت السّريري، في زمن الانهيار الاقتصادي وتغيّر وجه لبنان الحضاري نرضى بأي شيء. بل قد نقول لهم “استمروا بالغناء، فالغناء كما قال جبران سرّ الوجود، استمرّوا في صناعة الموسيقى ولو كانت موسيقاكم ضوضاء، فالسّكون الذي يلي الانهيار مؤلم وقاسٍ”.
لا بل نصفّق لهؤلاء الشباب، أقلّه نصفّق للنوايا الحسنة، ولصنّاع العمل نقول “تعبتم، أنجزتم، يعطيكم العافية، لكن رجاءاً لا تعيدوها”.