خضع لعمليّتين من دون بنج وقال للطبيب: عم تطلع روحي…رحل حسن
ابنه عود فواز يروي لـ"أحوال" تفاصيل الساعات الأخيرة
يحدث هذا في لبنان عام 2021، عمليّات تجرى في غرف طوارىء المستشفيات بدون بنج، كما يحصل أيّام الحروب، ويموت المرضى من الألم قبل أن تتاح لهم فرصة التّعافي من العمليّة التي خضعوا لها وهم بكامل وعيهم، في بلد انقطعت فيه كل سبل الحياة.
لا تزال عائلة فوّاز تسمع صراخ الوالد حسن الذي خضع لعمليّتين جراحيّتين من دون بنج في طوارىء مستشفى الساحل يوم الأربعاء الماضي، قال للطبيب “عم تطلع روحي يا دكتور”، وحوله كان ثمّة أطفال يجرون عمليّات في غرفة الطّوارىء أيضاً، كانت أجسامهم أقوى قاوموا الألم، أمّا حسن فواز، فأسلم الرّوح بعد ساعات على العمليّتين، عن عمر 70 عاماً، قضى آخر 7 سنوات منها يعاني من فشل كلوي، ويخضع لثلاث جلسات غسيل في الأسبوع.
فواز ابن بلدة الغسّانيّة الجنوبية، هو الشهيد الحي، أصيب بسيّارة مفخّخة عام 1985، وتمّ نقله إلى برّاد الموتى في مستشفى الجامعة الأميركيّة، هناك سمعوا نبضات قلبه فأدركوا أنّه لا يزال يقاوم، تمّ إنقاذه وحمل معه الكثير من رواسب الإصابة لكنّه عاش، ليعود بعدها بربع قرن، ويموت في بيروت الانهيار الاقتصادي، حيث لا بنج ولا حبّة دواء، ولا نهاية تليق بالشّهيد الحي.
يروي ابنه عود لـ”أحوال” تفاصيل رحلة والده الأخيرة، حين نقله الصّليب الأحمر ليخضع لجلسة غسيل كلى، خرج من منزله ولم يعد.
يقول “كان لدى والدي جلسة غسيل كلى يوم الأربعاء، ونقله الصليب الأحمر كالمعتاد بسبب وضعه الصحّي، إلا أنّ القسطرة (الوريد الصناعي) في يده حيث يتم وصل آلة الغسيل لم تعمل، وكان ضغطه 7. فطلب منّا الأطبّاء إدخاله إلى قسم العناية للمراقبة، ولم يكن ثمّة أماكن في العناية فبقي في غرفة الطّوارىء ريثما نجد غرفة فارغة”.
ويتابع عود ” في هذا الوقت كان هم الطاقم الطبّي رفع ضغطه، وأبلغنا الطبيب بضرورة إجراء جراحة في رقبته، لوضع وريد صناعي يتمكن من خلاله من إتمام عملية الغسيل، خصوصاً أنّ جسده كان قد امتلأ بالماء”.
كانت عائلة فواز تنتظر سريراً فارغاً في العناية، أُبلغوا في المستشفى أنّ السرير يفرغ في حالتين، أن يموت أحد المرضى أو أن يتحسّن ويخرج من العناية.
يكمل عود رواية تفاصيل رحلة والده الأخيرة ” ظلّ والدي من الأربعاء حتى اليوم التالي عند الساعة الثالثة في الطوارىء ينتظر غرفة عناية، في هذا الوقت كان جسده يتسمّم لأنّه لم يكن قد خضع لجلسة الغسيل، فقالوا لنا أمامكم حلٌ من اثنين، إما أن يخرج والدكم ويموت في المنزل وإمّا نحن مرغمون على إجراء العملية من رقبته ليتمكّن من غسل الكلى، ووضعونا في جو أنّ ضغطه قد ينخفض خلال الجلسة وقد يتوفى. وقالوا لنا إنّه طبياً يجب أن يكون ثمّة تجربة، ونحن تركنا الموضوع للفريق الطبّي ليقرر، فكان القرار بإجراء قسطرة في الرقبة ونقوم بواجبنا للنفس الأخير”.
وهنا بدأت المأساة، بدلاً من أن يُنقل المريض إلى غرفة العمليّات، أجريت القسطرة في غرفة الطوارىء، من دون بنج من دون أي تحضير، وكأنّ هذا المريض مجرّد رقم.
وحدث إشكال داخل الطوارىء بين العائلة وبين الفريق الطبّي، يقول عود ” لم يكن يحقّ لهم إجراء العمليّة في الطّوارىء من دون بنج ووالدي كان يتألم، لكنّنا كنّا نريد كسب الوقت ليتمكّن من الخضوع لجلسة غسيل كلى كي لا تتراكم المياه على الرّئتين”.
لم تنجح العمليّة، فأبلغ الطّبيب العائلة بأنّ عليه المحاولة من خلال إجراء قسطرة في قدمه. يتابع عود “كان والدي يصرخ من الألم، حاول الأطبّاء إقناعه أنّه لا يتألم وأنّ الأمر لا يعدو كونه وهماً، إلا أنّ والدي قال للطبيب “مش وهم عم تطلع روحي من الوجع، عم تشقوا فيي عم تطلع روحي”.
العملية الثانية أجريت أيضاً من دون بنج، أبعدوا كل العائلة من الطّوارىء، في هذا الوقت لشدّة ما تألّم المريض، وكان ضغطه منخفضاً، بدأ يفقد الوعي ودخل فيما يشبه الكوما، يقول عود “عندها سبحان الله أمّنوا له غرفة في العناية، ووصلوه إلى ماكينة غسيل الكلى وطردوا أخي من الغرفة.”.
وعن لحظات والده الأخيرة يقول ” فعلياً ليس لديّ معطيات عمّا حصل داخل الغرفة، لكن حسب ما علمت، أنّه بمجرد أن بدأ بالجلسة، هبط ضغط الدّم إلى الـ4، وأصيب بضيق نفس، فتمّ وضعه على آلة تنفّس، وتوقّف قلبه، وبقي على هذه الحال إلى اليوم التالي. وعندما زرته بعدها بساعات كان بارداً جداً ودّعته وقلت له الله معك يا بابا. خرجت من العناية وتوقّف قلبه”.
يؤمن عود اليوم أن والده ارتاح، يقول ” ارتاح من غسيل الكلى، من الدواء المقطوع من العمليات بدون بنج، وكنّا متقبّلين قضاء الله، خيّرونا بين أن يموت وأن يموت، فاخترنا الموت بطريقة طبيّة، صحيّة، بسلام، لكن في لبنان لا يوجد سلام. لدينا فقط الوجع.”
لا يتّهم عود المستشفى بشيء يقول “عزّ علينا ما حصل في الطوارىء، لكن هذا وضع البلد، لا يوجد مستلزمات طبيّة”.
بدورها، تروي ليلى ابنة الراحل حسن فواز تفاصيل ممّا حصل مع والدها “أبي مريض كلى وسرطان، في الفترة الأخيرة كانت عظامه تؤلمه، وعندما تعب، وضع في غرفة طوارىء بدل العناية. وهناك شاهدنا أطفالاً صغاراً يخضعون لعمليات في الطوارىء وليس في غرف العمليات”.
تلوم ليلى الطاقم الطبّي الذي لا يتفهّم توتّر أهل مريض يعالج بأسوأ الأساليب تقول “لا أنسى المشهد عندما دخل الطبيب، كان متوتراً ولم يكن متجاوباً، ولم نتمكّن حتّى من طرح الأسئلة، في وقتٍ كان والدي يتألّم بشدّة ويصرخ.”.
تتابع ” منظر بيي بالطوارىء ما بيروح من بالي، عرفت حينها أنّه الوداع الأخير”.
رحل حسن فواز متألّماً، لا يزال صراخه يملأ أرجاء الطّوارىء، ليخبر أصحاب الضّمير المعدوم، أنّ ثمّة مواطن نجا من انفجار سيّارة مفخّخة في زمن الحرب، لكنّه لم ينجُ في زمن السّلم، حين باتت بيروت مدينة منكوبة، ما تبقّى فيها من حياة لا يشبه الحياة.