اللبناني يجيد قهر المأساة بالسخرية… النّكات في زمن المآسي ما لها وما عليها
يحارب اللبناني الأوضاع الكارثية التي يعيشها بسلاح مستجد، هو الضّحك. يهزأ من مأساته، يسخر من حاكميه، يتهكم على وضعه المزري، يتندّر على مستقبله، وينكّت على حاضره السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
إنه الضحك المرّ والطعم الحاد في النفوس. هذا السلاح ليس بريئاً ولا واهياً أنه سلاح على خفته يحارب البلاهة وقد كثر وانتشر مؤخراً حتى بات القوت الفكري والشعبي أمام اضمحلال الأمل وانتشار الازدراء من إمكانية الخلاص مع هذه الطبقة المتسلطة على رقاب العباد.
المجتمع اللبناني لم يعرف سابقاً انتشار النكت كما يحصل مؤخراً، وكأن هذه النكات تقتحم حياته رغماً عنه، هي التي تطارده وهي التي تحضر بلا أذن ولا دستور. إنها وليدة هذا الحاضر المهموم والموجوع أنها اللغة الذكية والفكر المتقد في قول ما لا يمكن قوله علانية وعلى “المشبرح ” فيأتي على شكل تهكم.
ومفبرك النكتة ليس انساناً عادياً بل هو أعلى ذكاءً وأكثر حكمة من سواه. هو قادر أن يعجن الحقيقة على شكل ابتسامة ويرسلها مبطنة متخفية لكنها عالية الترداد في مواجهة أصوات لا يقدر عليها مباشرة لكنه قادر ان يعريها ويفضحها.
من هنا ندرك لماذا فن الكوميديا والذين يعملون في برامج التهكم هم الأكثر مشاهدة والأكثر سطوعاً. لأن هؤلاء يجيدون الضرب الناعم على وجه الطغمة وهم فشة خلق للمتعبين والمقهورين.
قهر القهر
الفيلسوف الفرنسي “هنري برجسون” قد عرّف النكتة والفكاهة قائلًا أنها “قهر القهر”، رابطًا إياها بالواقع الإنسانيّ المُعاش. فكلما زاد القلق كلما باتت حاجتنا الى الضحك اكثر، فاللبناني يبدو مدمناً وهو يلجأ الى تناول جرعة من المرح والفكاهة بشكل مستمر تساعده على التعايش مع الحياة اليومية بطريقة أكثر سهولة وخاصة في هذه الأوقات الصعبة المليئة بالتحديات.
كل لبناني يمر يومياً بدرب شاق سواء على المستوى الشخصي أو في أمور متعلقة بالعمل أو مشاكل صحية، عندها يتضح أهمية الفكاهة والمرح لأنها تكون بمثابة نقطة مضيئة في ليل أسود مظلم، فهي قد لا تعالج المشكلة في حد ذاتها وإنما تعمل على تخفيض مستويات التوتر لديه وتساعده على رؤية العالم من منظور مختلف.
لو أمعنا النظر لوجدنا طبيعة النكتة تتغير باختلاف المستوى الثقافي في المجتمع الواحد، فالمثقف تعجبه النكتة العقلية التي تستدعي الإعجاب وتثير التبسم، والجمهور العام تعجبه النكتة الصريحة التي تثير الضحك، فيما البائسون واليائسون تعجبهم مرارة النكتة.
ويبدو أن اللبناني بات يتصدر أكثر الشعوب حباً بالنكتة لسبب أنه من أكثر الشعوب معاناة وظلماً وسوء إدارة.
الهروب من الواقع بالسخرية
تقول أخصائية علم النّفس دارين أمهز لـ”أحوال” تعليقاً على موضوع السخرية من المآسي على الطريقة اللبنانية :” اللبناني يحوّل كل موضوع شائك إلى مهزلة وضحك، وكأنه يسخر من نفسه. فهذا أن دلّ على شيء فهو يدل على الهروب من المأساة والواقع الأسود وتخطي المشاعر السلبية التي تلفه من كل حدب وصوب. فعادة المشاعر السلبية قد نعبّر عنها إما بالصراخ أو الغضب أو الضحك أو السخرية”.
وتتابع “بات اللبناني يجيد فن السخرية والاستهزاء من واقعه كنوع من التنفيس الذي له وجه إيجابي كونه يجد ملاذاً في هذا السلوك إلا أن له أيضاً وجهاً سلبياً، لأن المشاكل لا تحل من خلال السخرية ولا من خلال اختراع النكت بل يجب علينا أن نواجه هذه المشاكل بجدية ونجد لها الحلول الفعلية”.
وترى أمهز أنّه في مكان ما هذه الطريقة ليست صحية. “فتقبّل الواقع أمر جيد لكن دون أن نستسلم بل يجب علينا أن نعرف كيف نخرج من هذا الواقع الذي جعلنا نعيش في الحضيض، ونعود الى سابق عهدنا في الازدهار والحياة السوية التي كنا قد تعودنا عليه، فعودة حياة البحبوحة والسفر والرخاء لا تعود من خلال التنكيت والاستهزاء بارتفاع الدولار وسريان الفقر، بل من خلال نهضة وثورة فعلية تغير هذا المسار وتخرجنا من أزمتنا.”.
الاستهزاء يستحضر الايجابية
وتضيف أمهز بأنّ الضحك له فوائد ذهنية كثيرة، فقد أثبتت الدراسات والتجارب التي تضمّنت استخدام برامج مهارات الفكاهة، بأن الاشخاص الذين تمّ تدريبهم على مهارات الفكاهة أظهروا زيادةً في التفكير الايجابي، وانخفاضاً في التفكير السلبي، وتطوّراً في الكفاءة الذاتية، وامتلاك قدر أكبر من التفاؤل، وانخفاض أعراض القلق والاكتئاب مقارنةً مع غيرهم من غير المتدربين على هذه المهارات.
إذاً المقولة اللبنانية “نفّخ عليها تنجلي” لم تأتِ من فراغ، هي نتاج تاريخ طويل من المآسي، عاشه اللبنانيون وتعايشوا معه، وعلى طريقة الكوميديا السوداء حوّلوا مآسيهم إلى نكتة على طريقة “شرّ البليّة ما يضحك”، وأن “اضحك تضحك لك الدنيا” حتّى وإن كنت تضحك من مآسيك.