حين يتقاطع النار في الجنوب مع الفوضى في بيروت: لبنان على خط الزلازل السورية – الإسرائيلية
بقلم: د. هشام الأعور

من جنوب لبنان إلى قلب بيروت ومدن الساحل والشمال، بدت ليلة الاثنين – الثلاثاء الماضية كأنها تختصر مرحلة كاملة من التحولات العميقة التي تعصف بالمنطقة. فالنار التي اشتعلت فوق جبل صافي وإقليم التفاح ووادي عزة بفعل الغارات الإسرائيلية المتتالية، تزامنت مع فوضى عارمة اجتاحت العاصمة ومدناً ساحلية وشمالية تحت عنوان “عيد التحرير”، لتُظهر بوضوح أن لبنان لم يعد يعيش أزماته بمعزل عن الزلازل السياسية والأمنية التي تتفاعل في سوريا وإسرائيل ومحيطهما.
الغارات الجوية الإسرائيلية لم تعد مجرد رسائل نارية متقطعة، بل باتت جزءاً من مشهد تصعيدي أوسع يشتبك فيه الميداني بالسياسي. وفي المقابل، لم تكن المسيرات التي خرجت دعماً لأحمد الشرع/الجولاني مجرد تحرك جماهيري، بل استعراض قوة لقوى صاعدة في سوريا الجديدة، قوى تحاول فرض شرعية الأمر الواقع داخل سوريا وخارجها، بما في ذلك الأراضي اللبنانية التي شهدت ما يشبه “غزوة منظمة” حملت رايات داعش والنصرة وتحولت سريعاً إلى أعمال شغب وصدامات مع الجيش اللبناني.
المشهدان – غارات الجنوب وفوضى بيروت – لم يكونا منفصلين، بل وجهين لتحوّل إقليمي واحد. فالنظام السوري الذي سقط، والدولة التي تفككت، والفراغ الذي ملأته قوى مسلحة متعددة الجنسيات، كلها عناصر تسرّبت إلى لبنان كارتداد طبيعي لانهيار الحدود السياسية التقليدية. وفي الوقت نفسه، إسرائيل التي تراقب إعادة تشكيل السلطة في سوريا وتبدّل مراكز النفوذ في لبنان، تتحرك عسكرياً وسياسياً لترسيم واقع جديد من خلال المناورات الواسعة على الحدود وتكثيف الضربات الجوية.
وفي عمق هذا المشهد، يظهر مسار “الميكانيزم” الذي دخل إليه لبنان عبر السفير سيمون كرم، كقناة تفاوضية غير مباشرة تفتح الباب أمام أسئلة جوهرية حول مستقبل الحدود، وطبيعة التعاون الأمني والاقتصادي، وإمكانية فرض “حدود آمنة” أو “مناطق عازلة” على طول الخط من غزة إلى جنوب لبنان والجولان. فإسرائيل تستثمر اللحظة السورية والفوضى اللبنانية ومحاولات تثبيت السلطة الجديدة في دمشق، لتعيد طرح مشروعها القديم المتجدد: نزع قوة الخصوم، إعادة تشكيل الأمن الحدودي، وربط السياسة بالاقتصاد تحت سقف تفاوضي تريده أن يبدأ عبر “الميكانيزم”.
وهكذا يجد لبنان نفسه اليوم على خط الزلازل السورية – الإسرائيلية. فمن جهة، تفكك الدولة السورية يُنتج جماعات مسلحة عابرة للحدود تتصرف كسلطات فوق وطنية؛ ومن جهة أخرى، إسرائيل تتحرك عسكرياً وسياسياً لفرض خرائط جديدة. وبين هذين المسارين يقف لبنان دولةً مأزومة بلا قدرة كافية على الضبط، يواجه استباحات داخلية وضغوطاً خارجية، فيما قواه السياسية تلتزم صمتاً مفارقاً تجاه أحداث تهدد سيادته وكيانه.
إن ما جرى في الجنوب وما حدث في بيروت ليسا تفصيلين منفصلين عن مشهد أوسع يعاد رسمه في الإقليم. بل هما إنذار واضح بأن لبنان دخل مرحلة جديدة تتطلب وضوحاً في الموقف ورؤية تتجاوز ردود الفعل. والمسار الآتي، سواء عبر الغارات أو الشارع أو المفاوضات، سيحدد ما إذا كان لبنان سيبقى مجرد ساحة تتلقّى ارتدادات الزلازل، أم سيستعيد موقعه كدولة قادرة على صياغة خياراتها وسط لعبة أمم تزداد تعقيداً.



