
في مشهد يُجسّد اللعبة السياسية الدولية المعقدة حول سوريا، أثار المبعوث الدولي توماس باراك موجةً من الجدل خلال مشاركته في مؤتمر الدوحة الأخير، عبر تصريحات تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لكنها قد تكشف عن خريطة طريق مقصودة.
خطاب المركزية
خلال مقابلة مع قناة “روداو”، صرح باراك بأن “اللامركزية فشلت في الشرق الأوسط، ولذلك يجب تطبيق المركزية”. وهو تصريح غامض استوقَف الكثيرين، خاصة أن نماذج اللامركزية الحقيقية لم تُطبّق بشكل كامل في المنطقة ليُحكم عليها بـ”الفشل”.
بعض وسائل الإعلام المقربة من سلطة الأمر الواقع في دمشق سرعان ما التقطت هذا الجزء من الحديث، وراحت تُبرزه وكأنه تأييد لرؤيتها في حكم مركزي قوي.
النموذج العراقي والفيدرالية الكاملة
لكن الصورة اكتملت – أو تعقدت – في لقاء لاحق لتوماس باراك ، في ذات المؤتمر. حيث وضع باراك الحلَّ بشكل أكثر وضوحاً وصراحة، مقترحاً نموذج العراق كحل لسوريا: “نظام جمهوري مع فيدرالية للمناطق الكردية والدرزية والعلوية ، ليتمكنوا من العيش مستقلين”. ولم يقتصر اقتراحه على الحكم الذاتي الإداري، بل توسع ليشمل:
· استقلالية التعليم: عبر فتح مدارس خاصة بهم.
· استقلالية عسكرية لـ”قسد”: مما يعني ترسيخ وجودها كقوة أمنية منفصلة.
· الاعتراف بحزب العمال الكردستاني (PKK): حيث أشار إلى وجوده في شمال شرق سوريا، واصفاً ذلك بـ “دولة للكرد لكن بشكل مختلف”.
التلاعب بالتصريحات وكشف الحقيقة
هذا التناقض الظاهري بين التصريحين ليس سذاجة أو ارتباكاً، بل يبدو أقرب إلى لعبة سياسية مدروسة. حيث تُقدّم “المركزية” كخطاب عام مريح لبعض الأطراف، بينما تُحضَّر الأرضية على المستوى الدولي والإقليمي لصيغة فيدرالية حقيقية، هي ما يفصح عنه في الجلسات المغلقة أو المقابلات الأكثر تخصصاً.
المُشاهد السوري الذي أنهكته خطابات التضليل ، لم ينخدع هذه المرة.
فقد انتشرت المقارنة بين التصريحين على نطاق واسع على منصات التواصل، وكشف الجمهور محاولات التعتيم والاجتزاء التي مارستها بعض الأبواق الإعلامية التابعة للجولاني، والتي سارعت لتلميع صورة المركزية متجاهلة تماماً حديث الفيدرالية الواضح والصريح.
الفيدرالية قادمة.. والضحك على الذقون منتهٍ
الرسالة التي يبدو أن توماس باراك يوجهها، عبر هذه التصريحات المزدوجة، واضحة: النقاش لم يعد حول “إن” كانت الفيدرالية قادمة، بل حول “كيف” ومتى. اللعبة السياسية تتقدم، والمشهد في شمال وشرق سوريا وبالجنوب السوري والساحل يتجه نحو ترسيخ واقع منفصل، تحت مسميات مختلفة، بموافقة ودعم دوليين.
المحاولات اليائسة لإخفاء هذه الحقيقة أو روتشتها لم تعد تُجدي نفعاً أمام شعب تعلم قراءة ما بين السطور وخلف الكواليس.
الفيدرالية، بكل تجلياتها العسكرية والتعليمية والإدارية، تبدو قدراً مُحتّماً يُرسم في مؤتمرات مثل الدوحة، بينما يُضحك فيها على من لا يزال يتوهم غير ذلك.



