الهروب الكبير من قارب الموت والبلاء اللبناني العظيم
ليس أبناء طرابلس فقط من هووا في أعماق البحر بل لبنان كلّه تحوّل إلى مركبٍ ضخمٍ يهوي سريعًا ومسألة الإرتطام بالقعر قريبة لا تُفرملها خطة تعافي مالي مزعومة ولا كابيتال كونترول يسلب اللبنانيون جنى أعمارهم.
سبعون متعبًا أو أكثر اختاروا الفرار من وحش المنظومة، التي تنهش أبناءها، إلى فم البحر مسلّمين أمرهم للأمواج العاتية للأسماك والحيتان، غير آبهين للمخاطر، بدل أن يُسحقوا بين أنياب ديناصورات وتماسيح اليابسة اللبنانية.
هذا اليَمّ رغم ملوحة مياهه وغدر أمواجه يبدو أكثر رحمةً من سياسيي المنظومة المالية التي أغرقت اللبنانيين في الفقر والعوز، في وقت تغرق فيه الطبقة الألغارشية في بحر الحملات الانتخابية والإعلانية للفوز وتصرف عشرات الملايين من الدولارات على سهراتها وإفطاراتها وصورها الانتخابية لتأمين حواصل فوزهم بالسلطة.
مظلومو طرابلس والقبة وكل لبنان يدفعون ثمن وطن منهوب وسلطة فاسدة وتابعة ومصرة على تدويل ولائها. والبلاء اللبناني العظيم، لم ينتهِ منذ التسعينات حتى اليوم بعدما تحوّل البلد إلى مقبرة سياسية مالية نقدية تقوده طُغمة تنحر اللبنانيين لتنفيذ مشاريع خارجية ومآرب شخصية.
كلّنا غرقى اليوم في يمّ جهنّم مالي واقتصادي واجتماعي ومعيشي، لكن طرابلس من ضحايا الإهمال والعوز وغياب الدولة منذ زمن بعيد. لم تشفع بها الدولة، التي لا يزال اللبنانيون ينتظرون قيامها منذ اتفاق الطائف، ولم يرحمها “ملياردرات” الشرق الأوسط من أبنائها، وهم لا يذكرونها سوى في المواسم الانتخابية ليتلوا على الطرابلسيين بيانات الوجع والأحاسيس المخادعة وينثروا الوعود التي لا تجد طريقها إلى أرض الواقع.
سبعون روحًا هائمة اختارت الفرار من بين 5 ملايين روحًا أخرى، منهم من قضى نحبه ومنهم من نجا إلى حين. وفي انتظار الحصيلة النهائية للضحايا في “رحلة الموت” التي كانت متجهة من شواطئ طرابلس نحو السواحل الايطالية، استمرت عمليات الاغاثة والبحث عن مفقودين. وقد أعلن، في وقت سابق، رسمياً عن وفاة طفلة وإنقاذ 48 شخصاً، في حين جرى التداول بلائحة أسماء من 75 شخصاً كانوا على متن الزورق. ويضع أهالي المفقودين سيناريوهات مأسوية حول مصيرهم مع الاحتفاظ بوميض أمل بقاء آخرين على قيد الحياة.
الهروب من الموت الى الموت، اليائسون من هذا الوطن ظنّوا أن المغامرة بخوض البحر هو سبيل الخلاص بعدما تيقّنوا أن البقاء في وطن سلبته عصابة مسؤولين لصوص فلا أمل بنجاتهم من هذه الزمرة المجرمة.
غدرهم البحر أم غدرتهم الزوارق البحرية العسكرية؟ السؤال طرحه الناجون من الغرق وألقوا اتهامات للمؤسسة العسكرية بالتسبب بهذه المجزرة.
الناجون إذًا، يتهمون زورق الجيش أنه صدمهم مرتين وتعمّد إغراقهم. ومما قاله أحد الناجين من المركب الغارق “تعرضنا للقتل العمد… طرّاد خفر السواحل تعمدوا اغراقنا بصدم قاربنا مرتين وقالوا لنا: بدنا نقبركم”!. ومنهم من اتهم قائد الجيش العماد جوزف عون بالتسبّب بالكارثة عبر إعطاء أوامر بضرب القارب مطالبين عبر الإعلام بمحاسبته.
قيادة الجيش خلال مؤتمر صحفي للكشف عن ملابسات غرق السفينة نفت الأمر على لسان قائد القوات البحرية العقيد الركن هيثم ضنّاوي، الذي قال إن “قائد المركب اتخذ قراراً بتنفيذ مناورات للهروب من الخفر ممّا أدى إلى ارتطامه بالخافرة، ولدينا دلائل ملموسة على هذا الأمر وكلّ ما يُشاع غير ذلك لا أساس له من الصحة”.
وكشف قائد القوات البحرية أن “صناعة المركب الذي غرق أمام سواحل طرابلس تعود إلى العام 1974، وهو صغير طوله عشرة أمتار وعرضه 3 أمتار، والحمل المسموح له هو 10 أشخاص فقط ولا وجود لوسائل أمان فيه، وبالتالي الغرق كان محتماً ولا مهرب منه”.
لكن الكلام العسكري لم يُقنع صيحات الألم على ألسنة الشهود. ورواية الناجين عن اصطدام زورق للجيش اللبناني بزورق “رحلة الموت” عكست أجواء متشنجة وتوتراً في غير مكان من أحزمة البؤس الطرابلسية. وجرى إطلاق نار واحتكاك مع الجيش الذي يعمل على ضبط الوضع وإكمال عمليات البحث وسط حالة غضب وغليان تشهدها شوارع طرابلس ومخاوف من فلتان الأمور أمنيًا واستغلال بعض الجهات لحالات غضب الأهالي.
شهادات من نجوا من المواطنين الطرابلسيين والشُبّان السوريين بعد فقدان العديد من الاشخاص في مياه البحر تلقي الضوء أيضًا على جرائم الاتجار بالبشر التي تضاف الى جرائم الفاسدين من مسؤولين لصوص وفاشلين على حد سواء.
ومواسم الهجرة المميتة لا تتوقّف وهي محنة عالمية تتحمّل مسؤوليتها الأنظمة التي تحترف إفقار شعوبها وتثبيت اليأس في نفوس شبابها. والحادثة المُفجِعة في طرابلس اليوم تأتي بعد أسبوع من إعلان الجيش توقيف زورق في المياه الإقليمية اللبنانية عند نقطة العريضة، وعلى متنه 20 شخصًا من الجنسية السورية بينهم أطفال ونساء خلال مغادرتهم الشاطئ اللبناني.
شواطئ طرابلس والمنية والعريضة في عكار تمثّل معبرًا للمهاجرين غير النظاميين مع حلول موسم الصيف. وتُجار البشر يبيعون الآمال الكاذبة لليائسين من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين. وبعد اشتداد الأزمة اللبنانية في 17 تشرين الأول 2019، تفاقمت ظاهرة الهروب غير الشرعية على متن “قوارب الموت”، ووقعت مأساة كبيرة أودت بحياة عشرات في العام 2020 بعد غرق قارب انطلق من الميناء قرب طرابلس. ورغم المخاطر ما زالت عشرات الأسر تأمن لخطر التجربة أكثر مما تفعل لهذا الوطن البائس.
وفي بيانات سابقة لمديرية أمن الشواطئ، معلومات عن تمكّن الجيش في 2021 من إلقاء القبض على 21 قارب، كان على متها 707 أشخاص حاولوا الهرب. وهذه نسبة مرتفعة مقارنة بالعام 2020، حين ألقى الجيش القبض على 4 قوارب، مجموع الهاربين فيها 126 فرد، حسب المديرية.
التصريحات ومواقف التنديد تتطاير يُمنىً ويُسرةً لا تُعزي الشهداء، ولا تجد لها صدًى في قلوب المتألمين فقط التحقيقات الجدّية وصولاً لكشف الملابسات والعدالة والمحاسبة التي تُنصف طرابلس وأهلها قبل أن يُرمى لبنان بأسره في البحر.
رانيا برو