“صالون زهرة”.. الواقع المرّ الذي يضحكنا
كل الأرواح اجتمعت هنا. حب وغلو وطيبة، وذكورية فائضة وأنوثة مغلوبة على أمرها، وفقر يسطّر وجوه الناس وشغل مشبوه.
“صالون زهرة” بقعة سطوع جديدة لـ”نادينَين” -نادين جابر ونادين نسيب نجيم- الأولى جمعت نصّها من الحارة العتيقة حيث تتآلف كل الناس وتتناحر في قضايا الغيرة وسطوة الرجل وظلمه، وفي النخوة التي لا تخلو من أبطالها.
جابر التي كتبت نصاً في عمقه غم وفي تجسيده طرافة. هذا النص الرشيق بتعابيره البلدية وشخصياته الطرية والجلفة فيها من كل حارة بطل وساكنة في كل بيت. لم تبتعد جابر عن الواقع ولم تأتينا بقصة من عالم أخر، بل غرفت من هذا الواقع وراحت تكتب عن بيئة فقيرة شعبية تتجاور بهمومها وانشغالاتها وكأنها تحكي لسان حال الجميع. فالفقر له زاده من المرارة والتسلط والقساوة والقلة التي تولد النقار، وتعنّت الرجل عن غير حق وظلمه للمرأة. وفي المقلب الآخر، نجد أن هذه المجتمعات الفقيرة لها ألبستها وأحذيتها وجمالها وصالونها ونزاقتها وتعابيرها.
ما يطغى على النص الغريب والجديد ويخرجه من شرنقته العادية، هو أداء نادين نسيب نجيم التي أعطت جرعة زائدة من روح جديدة كنّا قد استشفينا قليلها في نص “عشرين عشرين”، وقدرتها على رمي تعبير يصبح على كل شفة ولسان. فلم تعد “النهنهة” حائزة على علامة الفرادة، بل زادت من دفق تعابيرها وبلّلت نفسها بتلك الروح الطاغية بين القوة والهضامة، وبانت شخصية سليقية بامتياز.
تنبري نادين نجيم كبطلة مغايرة لكل ما سبق لها من أعمال. فهي هنا تلبس رداء جديداً لا يخفّف من وهج سطوعها وجمالها، بل يزيدها رفعة وهي بثوب بساطتها. انفعاليتها ورشاقتها في لبس التعبير والحركة الجسدية معاً تجعل منها خارقة الأداء، فهي تحرّك جسدها على وقع المعنى والتعبير لتظهر لنا أنها بطلة من تلك الحارات التي تشغل بها الناس بقوتها وسلاطة لسانها وتمرّدها، وتشغل بها المتفرج وهي تغالي بردّة فعلها كفتاة قوية وشلق من حارة شعبية.
“صالون زهرة” هو بقعة صغيرة لنقطة زيت تعمّم على كل المجتمع. تأتي القصص حاملة مرارة وضحكات معاً؛ وهذا هو اللغز الذي يجعل من “صالون زهرة” بقعة فريدة في عالم الدراما، فعبر هذه الشخصيات تُمرر رسائل كثيرة عن العلاقات الزوجية، والحضانة والعنف الأسري وكل الظلم الذي يلحق بالنساء بين دمعة وابتسامة.
في خضم هذا الواقع الثقيل بكل أحماله وأعبائه، المشاهد بحاجة الى جرعة خاصة تقع بين الجدية التي لا تزيده هماً وغماً، وبين النسيان والمرح الذي لا يكون فائضاً فيصبح تهريجاً وانفصاماً وسخافة. وهذا ما خاطته نادين جابر في نصّها بحرفية، كاتبة قادرة على الغوص في الأوجاع وكتابة نصاً يجذب بخلطته السحرية بين المرارة والضحكة؛ وما نفّذته نجيم في أدائها مبتكرة شخصية فيها كل الشراسة والقوة والحنان، متجلية جميعها بنبرات تتركنا نضحك طويلًا ونفرح لهذا الأداء المتفلت من كل العقد.
“زهرة” هي البطلة المحورية والكل يدور في فلكها، ففي مائها تبرم كل الدوائر وتردّداتها. حتى معتصم النهار واحد من هذه الدوائر التي تدور في فلك زهرة. إنها حكاية مجتمع له أبطاله وأسرارهم ويتماهون كثيراً بما نحن عليه. فنحن لم نعد نهوى ولا تغرّنا حياة القصور والسيارات الفارهة، ومعظم الشعب اللبناني يحمل ضغينة تجاه طبقة غالت في ثرائها حتى بات معظم الشعب فقيراً. فربما يتماثل أكثر مع أولاد الفقر ومع من يحمل براثن في فكّيه لينتشل حقّه عنوة من الظالمين.
هذا العمل الذي صُوّر في منطقة مار مخايل المنكوبة نتيجة انفجار مرفأ بيروت، لم يكن قبل اليوم كما هو حاليًا؛ كان منطقة سهر وحياة تبدأ في الليل. أتى “صالون زهرة” ليشكل الصورة المستجدة لواقع الحال، لناس كانوا يتمتّعون بالهدوء والأمل وباتوا يعيشون قلق الحاضر وانعدام الأمان. وبقيت السطوح القديمة والعمارة العتيقة وحدها شاهد على الماضي والحاضر مع كل التغيرات التي طرأت في أعماق الناس.
“صالون زهرة” هو المتعة المرّة التي تحملها شخصيات من حزن وفرح. ترش علينا بعض الندى في عزّ قيظنا ونحن نشهد كل شيء ينهار حولنا. فتأتي شخصية ناعمة وفجة تخترق هذه البلادة التي نحن فيها، فتصرخ بنا على طريقتها لنغشى فرحاً.
تجدر الإشارة إلى أن مسلسل “صالون زهرة” هو من إخراج جو بوعيد، إنتاج شركة “الصبّاح إخوان”، ويضم إلى جانب نادين نسيب نجيم ومعتصم النهار نخبة من ألمع وجوه التمثيل في لبنان وأبرزهم زينة مكي، نهلة داوود، طوني عيسى، لين غرّة، كارول عبود، نقولا دانييل، مجدي مشموشي، أنجو ريحان، فادي أبي سمرا، جنيد زين الدين، حسين مقدم، رشا بلال وسواهم.
كمال طنوس