مجتمع

ذكريات ذنب وندم: الوداع الأخير لا يليق بموتى كورونا

تُوضع الجثة في نعش ولا يقرّب عليها أحد؛ يحملها الغرباء ويبتعد عنها المحبون. تُحرم من قبلة دافئة على جبين بارد، ويُمنع أعز المقربين إليّها من لمسها ولو للمرة الأخيرة. هكذا  هي حال “مراسم” الوداع الأخير لموتى كورونا.

يخشى الناس من مريض كورونا حتى بعد موته، ويرتدون كمامة تقيهم منه رغم لفظه أنفاسه الأخيرة، محافظين على تباعدهم الجسدي معه مع أنّ قلبه قد توقف عن النبض، ومع أن البعد سيطول، وهذه المرة إلى الأبد.

وفيما اقتربت وفيات كورونا من المليون ونصف المليون حول العالم، وفيما أُقيمت مقابر جماعية لموتى هذا الوباء في دول عدة، لم يكن الوداع على أهالي المتوفين بكورونا سهلاً، إذ أن احداً لن ينسى كيف كانت مراسم عزاء محبيه خالية من معنى “العزاء”.

وكمن يدفن عورة يريد التخلّص منها، لم يأخذ المتوفون حقهم في الممات، وكذلك لم يأخذ ذووهم حقهم في المواساة برحيلهم.

فكيف يصف أهالي المتوفين، العزاء في زمن الكورونا؟ وماذا يقول علم النفس عن هذه التجربة وتأثيرها على النفس البشرية على المدى الطويل؟

كورونا تخطف أماً من أحضان بناتها الخمس

يتحدث “جريوس يونس” بحرقة كلما ذكر زوجته “جميلة بولس” (56 عاماً)، وهي أم لخمس بنات. ويقول في حديث لـ” أحوال” إننا “فقدنا أغلى إنساناً عندنا”. ويضيف، هو العالِم بأنه لو أُصيبت “جميلة” في زمن توفّرت فيه اللقاحات، لربما كانت نجت من الموت.

قبل الرحيل، واظبت الأسرة على زيارة الفقيدة في المستشفى بعد شفائها كلياً من كورونا، لكن حالتها الصحية تدهورت جرّاء مضاعفات مفاجئة على كليتها، وتم وصل رئتيها بآلة تنفس، “فبقيت تتواصل معنا بعيونها إلى أن توقف قلبها نهائياً عن النبض”، يقول يونس.

 فعلنا كل ما بوسعنا ولا مفرّ من الخسارة

ولا يخفي “يونس” المفجوع على شريكة العمر، امتعاضه من ترك اللبنانيين لمصيرهم في أزمة بهذا الحجم، هو الذي باع “تحويشة العمر”، ليؤمن 3500 دولار، ثمن 7 حقن من دواء ريمديسيفير لزوجته.

وشكى الزوج من شراء الدواء عبر “وسيط” وفق تسعيرة السوق السوداء، إذ لم تستطع العائلة تأمين فاتورة فيها بناءً على  طلب الطبيب في مستشفى رفيق الحريري.

هذه “التجارة” في المستشفيات كما أسماها، جعلته يتكبد في دفع  فواتير أخرى “غير مبرّرة” عند استلام الجثة. لكن أكثر ما استفزه كان الشكل الذي عومل به جسد جميلة بعد الموت، بعد أن رأى “عنصر الأمن” يحمل زوجته عوض الممرضين، بمعنى “شيل وحمّل”.

في المقابل، يرتاح يونس لفكرة اتمامه مراسم الدفن على أكمل وجه، فصحيح أننا “بعنا كلّ ما نملك” مقابل تأمين الأدوية ومراسم العزاء، لكننا لم نبخل على فقيدتنا بالوداع الذي تستحق.

إلى ذلك، دفعت هذه التجربة المريرة الرجل الذي لم يحصِ كل خسارته على الفقدان بعد، للاستنجاد بأي فرصة للهجرة ساعياً وراء “الطبابة المؤمنة” أولاً والعيش بكرامة لبناته ثانياً. هو الذي نام وزوجته لا تعاني من أي شيء، واستفاق ليرى وسادتها خالية.

ويختم، ولو أنّ بعض ما تعرّضنا له كان نوعاً من “التجارة”، لكن واجبي يقتضي أن أفعل كل شيء يبقيها على قيد الحياة. ولو عاد الزمن بي إلى الوراء لفعلت الشيء نفسه.

الجرح كبير والتعزية عبر الهاتف

تقول زوجة أحد المتوفين بكورونا، رافضة الكشف عن اسمها، إنّه جرح لا يندمل، و “لن أسامح نفسي كيف سمعت للأقارب، ولم أقترب من زوجي أو التمكّن من لمسه عند الوداع الأخير”. وتستدرك الزوجة المفجوعة، “لكن حجتهم مبررة، فأذى النفس عن عمد لا يقبله منطق”.

بدورها تقول ب. م وهي قريبة إحدى المتوفيات بكورونا، جئنا إلى بيت الفقيدة نلبي واجب التعزية لنتفاجأ بأنهم لم يحضروها إلى منزلها، ولم يكن مرغوباً بوجودنا خوفاً من العدوى. وبرأيها “هذا خطأ فهناك واجبات لا مفر منها، والشخص لا يموت كل يوم!”.

لقيت مراسم العزاء لغير مصابي كورونا الإجراءات نفسها هذا العام. في هذا السياق، تقول غادة عزام التي خسرت أختها مؤخراً، هو لجرح كبير جداً أن نفقد شخصاً غالياً على قلبنا. وعن أهمية حضور الناس بشكل كثيف إلى مراسم العزاء، لا تنكر أنها برهان لذوي الفقيد على كثرة محبيه.

لكنّ عزام تقبّلت فكرة التعزية عن بُعد بأريحية، بل أنّ العائلة تعمدت أن تذكر في ورقة النعوة أنّ العزاء عبر الهاتف، فيما اقتصر الحضور على العائلة، إذ لا مفر من مواساة بعضنا البعض.

علم النفس: عقدة الذنب ترافق أهل الميت

في حديثها لـ”أحوال”، تقول أخصائية علم النفس لوريس مفرّج أنّ عدم وداع الفقيد -المصاب بكورونا- عن قرب حتى ولو كان الأخ والأم أو الأخت وما يشبههم، هو شيء يفهمه العقل ويطبقه بالمنطق، بمعنى أن أحداً لا يريد أن يُصاب بالعدوى.

في المقابل، تسأل مفرج “ماذا حصل لعاطفتنا؟”، خصوصاً وأننا شرقيون وهذه المراسم جزء من طقوسنا التي نثمّن فيها قيمة الميت.

وأبرز الواجبات التي حظرها وباء كورونا هي الجلوس بقرب الفقيد وترتيل الشعائر الدينية أمامه ووضع تابوته في المنزل، وكلها براهين على الاحترام والمحبة للفقيد، وهي عربون وفاء له بعد مماته.

“أنظروا كيف حالنا اليوم”، تقول مفرّج، بعد أن أصبحنا نحتمي من الفقيد خوفاً من أن ينقل إلينا العدوى، ونتعامل معه كآفة نريد التخلص منها؛ مستدركة، في المقابل نحن مجبرون على ذلك.

وهنا، تشير مفرّج إلى ولادة عقدة الذنب على المدى الطويل، فنحن نسترجع هذه الأيام لاحقاً ونقارنها بأصول مراسم الدفن في الأوضاع الطبيعية، لنظل نقول لنفسنا “كان ينبغي التصرف بطريقة أفضل”.

وعقدة الذنب موجودة حتى عند فقدان شخص في ظروف طبيعية، كأن يسأل ذووه “ماذا قصّرنا بحقه؟”، أو “لو طلبنا عدداً أكبر من الأطباء”. وإذا كانت هذه العقدة موجودة في الأساس، فكيف في ظروف كهذه؟ لذلك فهي ستكبر أكثر وأكثر، لتجرّ وراءها شعوراً آخر وهو الندم.

وعند فقدان شخص، نحن “نقوم بواجبنا تجاه قيمته المعنوية”. لذا، فذكريات دفنه وعزائه تبقى حاضرة في ذهننا. ومن هنا ينطلق الندم، ونسأل أنفسنا “ما الذكرى التي تركناها؟ ونحن جلّ ما قمنا به هو الصلاة”.

وإن كنا نفهم أنّ هذا هو الأمر الواقع، لكننا حُرمنا من تأدية الواجب وإظهار المحبة والوفاء لهذا الميت. وهي ذكريات مُرّة تبقى معنا إلى الأبد.

غياب المواساة قد يؤدي للانتحار

من جهة ثانية، لا تنكر مفرّج أن قيام ذوي الفقيد بشعائر الدفن والعزاء لوحدهم يختلف عما إذا كانوا محاطين بالمعزين، وهذا يولد فيهم شعوراً بالإحباط والوحدة والمزيد من الحزن، فيستغرقون أشهراً مضاعفة للخروج من حالة الحداد.

فذوو الفقيد هنا “يقومون بأنفسهم بكافة المراسم، حيث لا يد تدعمهم أو قبلة تواسيهم، أو غمرة تحضنهم؛ فيما تغيب عبارة  “نحن بجنبكم” لتخفيف هول المصيبة. فهذه أمور تخفف من وطأة الألم، ولو أنها لا ترجع الفقيد لعائلته.

ومن يعيش حزنه لوحده سيكبر حزنه مع الوقت بلا شك، وينتظره إحباط وأفكار سلبية كتيرة، وانقطاع عن الطعام. وفي بعض الحالات قد يتولّد شعور بالانتحار كرهاً بالحياة. وتختم مفرّج “هذا يعود للقوة الداخلية للأشخاص وكيفية تجاوبهم مع الصدمة”.

الحزن المكبوت والتواصل الافتراضي

في إيران شُكّلت “لجان عزاء” لدعم ذوي وفيات كورونا، عبر تقديم خدمات نفسية خوفاً من تفشي ظاهرة “الحزن المكبوت”. فمثلاً، أدى انتحار شاب بعد أيام من وفاة أبيه، إلى انتحار والدته من بعده بعد أن وجدت نفسها وحيدة في ظل ابتعاد الآخرين.

وفي عملية حسابية بسيطة، تظهر أن نسبة وفيات كورونا في ايران قياساً بإجمالي عدد المصابين تبلغ حوالي 5%، أما في لبنان فتبلغ حوالي 0.7 %، أي أقل بكثير.

لكن في بلد منهار اقتصادياً ويرزح تحت تداعيات انفجار هز عاصمته بيروت، إضافة إلى تداعيات الحجر الصحي، يصبح اللبنانيون عرضة أكثر من غيرهم للمشاكل النفسية. فكيف اذا فقد اللبناني أغلى ما لديه ولم يجد في عزائه أحداً؟

من جهة أخرى، فإن المواساة “الافتراضية” في زمن التواصل الاجتماعي قد تقدم الدعم والاحتواء النفسي، وهي شكل من أشكال التعاضد الاجتماعي للخروج من المعركة مع الوباء بأقل أضرار نفسية ممكنة.

 

فتات عياد

 

 

 

 

فتات عياد

صحافية وكاتبة محتوى، تحمل إجازة في الصحافة من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى