رجل في الشمس: أبو سعيد الحرّ
مع انبعاث الروح من حناجر منى ومحمد الكرد ومئات الشباب والشابات من فلسطينيي 48، لم أستطع التفكير بأي شيء آخر: كيف بقي هؤلاء الشباب رغم كل التهويد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي… طبعاً أن يبقوا فلسطينيين!
كيف لمن وُلد في ظل الاحتلال وترعرع تحت سقفه الثقافيّ وتدرّج في نظامه التعليمي أن يبقى فلسطينياً! لقد عمدت الدعاية الإسرائيلية إلى استكتاب كثيرين، بالعربية واللغات الأخرى، لتسويق “الحلم الإسرائيلي” على اعتبار أنّ الحياة في دولة الإحتلال لا تشبه الحياة في أي مكان آخر في العالم، من حيث الرفاهية والتكنولوجيا والأمن والحرية والديمقراطية والمحاسبة. دعاية لم تُبقِ شيئاً إلا واستخدمته في تسويق “الإحتلال”؛ تلك المهمة التي تهافت عليها كثيرون؛ البعض طمعاً بمال، والبعض نتيجة أحقاد غريبة عجيبة، والبعض عن جهل هائل.
ثم خرج هذا الجيل الثائر ليسقط كل الأوهام عن جمال المستوطنات وديمقراطية المستوطنين واحترام الاحتلال للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. وبسرعة غير محسوبة، غزا هؤلاء بثقافة استثنائية مواقع التواصل وشاشات المقاومة وكل مساحة إعلامية يمكن غزوها. ليصبح السؤال سؤالين: كيف بنى هؤلاء، تحت أعين الإحتلال ورقابة أجهزته، كل هذه الثقافة؟
كيف بنوا كل هذه الثقة بالنفس والشجاعة والحماسة والإيمان بقضيتهم؟ طوال أيام “سيف القدس” كان جمال هؤلاء وقوتهم وتأثيرهم يوازي جمال وقوة وتأثير الصواريخ التي تتساقط على تل أبيب. ومهما زايد المزايدون ما كان يمكن تحديد أيّهما يعطي الدفع الأكبر للثاني. ثم أتى اعتقال منى الكرد مؤخراً وخرج إلى العلن سرّ الروح التي نُفِخّت في صدورنا منذ ارتفع سيف القدس للدفاع عنها: إنّه نبيل الكرد؛ ذلك الرجل الذي ربّى أولاده كما يُفترض أن نربّي أولادنا؛ ذلك الرجل الذي ربّى أولاده على حقيقة لا تستطيع التلفزيونات والفضائيات أن تشوهّها أو تمسّ بجوهرها. ربّى أولاده على كرامة لا يستطيع مستوى دخل الفرد في كيان الاحتلال أن ينال منها أو يقزمها أو يشتريها. ربّى أولاده على حرية حقيقية بدل الحرية الكذبة التي يبشرون بها هنا وهناك، وهو كان أكثر تأثيراً في تربيته من كل ثقافة الاحتلال بكل أدواته.
كان هناك في اليومين الماضيين رجل وقور مثابر محترم يقدم لنا نفسه كمثال أعلى يُحتذى، في تربية الأولاد، على الحرية والكرامة والإيمان الراسخ بالقضية. أبو سعيد لم يختبئ خلف المطوّلات، ولم يخرج من جيبه خطابات مطبوعة ومدققة لغوياً، ولم يبحث عن منابر. كان هو الآخر مبدعاً في عفويته، تماماً كمن قرر قبل شهر أن يواجه الجنون الاسرائيلي بابتسامة لتغزو ابتساماتهم العالم كله.
كان هو الآخر مبدعاً بعفويته، تماماً كذلك الطفل الذي فتّت أسطورة إسرائيل حين تدافع ثمانية جنود للإحاطة ببراءته من جميع الجهات لاصطحابه إلى السجن. أبو سعيد؛ تناول كرسياً واتكأ على جدار السجن ليتوّج مسيرة تربيته لأبنائه على الحرية والكرامة والقضية.
حرٌّ كـ”رجال في الشمس”، حرٌّ كتلك الدالة التي يقول غسان كنفاني في إحدى رواياته إنّها تنمو دون ماء وتكبر لتعطي أهل الدار أشهى عنب. على كرسيه عند جدار السجن كما قبالة منزله بعد عودة ابنته، كان ذلك الرجل عبارة عن جيوش كاملة في رجل واحد؛ كان مشهده هناك كمشهد الصواريخ وهي تنهمر على تل أبيب؛ عزة وفخر وصمود وسعادة تكبت ضحكتها مما يفعله مع ابنته وابنه بسلطات الاحتلال. والد ربّى ثائرة. والد ربّى مقاومة. والد غلب الاحتلال.
أبو سعيد رسّخ عقيدة المقاومة بالصواريخ والمقاومة برفض التطبيع والمقاومة بتربية الأولاد. والحقيقة أن جيل “التكتوك” أعاد الكثير من الأمل ورفع المعنويات، لكن الأمر لا يتعلّق بهذا الجيل فقط وبالصواريخ، إنّما بذلك الجيل الذي ظلمناه كثيراً. وإذ بنا نكتشف اليوم أّنه ربّى أولاده على نحو رائع ليكونوا أحراراً ومقاومين. هناك في فلسطين مقاومون أعدّوا عدة السلاح، وهناك شباب أسقطوا فكرة الكيان المستقر من الداخل، وهناك أيضاً كما اكتشفنا أخيراً في أبو سعيد جيلاً عنيداً خارقاً كسر كل منظومة الاحتلال الثقافية والاقتصادية والسياسية من الداخل. أبو سعيد مثال أعلى يحتذى، لكل والد في تربية أولاده.
غسان سعود