أحوال الشباب

واقع أزمة الدواء في لبنان.. صحة الإنسان أرخص الحاجات!

في ظل الأزمات المتلاحقة التي يعيشها لبنان، من مشكلة الطحين والمحروقات والمستلزمات الطبية وغيرها, لم تكن سوق الدواء بمأمن من الواقع المالي والإقتصادي الراهن الذي طال مختلف القطاعات وأنهك كاهل اللبنانيين. لا شك في حساسية هذا القطاع وأولويته لا سيما وأنه يأخذ بعداً إنسانياً، فإن كان ممكناً التخلي عن السيارة عند ارتفاع أسعار البنزين، فإنه من المستحيل تخلي المرضى عن أدويتهم.
تعود جذور الأزمة الى الربع الأخير من عام 2019 حيث بدأت بوادر إنقطاع الدواء تلوح في الأفق. في 30 أيلول من العام نفسه أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التعميم رقم 530 الذي يقضي بفتح اعتمادات بالدولار، لتغطية استيراد المُشتقات النفطية والقمح والأدوية. إستطاع 40% من مستوردي الأدوية فتح تلك الإعتمادات وفقاً للشروط المنصوصة في التعميم، فيما لم يقدر 60% على ذلك، فبعد ارتفاع سعر صرف الدولار للمرة الأولى تزامناً مع فترة حراك 17 تشرين الأول، ضُبطت عمليات تحويل الأموال الى الخارج الامر الذي شكل عائقا أمام تسديد مستوردي الدواء فواتيرهم، وكانت تلك الإشارة الأولى الى الإقبال على أزمة دواء.
خلال المجريات التي طرأت على الساحة السياسية وبعد مجيء حكومة الرئيس حسان دياب، أعلن وزير الإقتصاد راوول نعمة خطة دعم السلع الأساسية بموجب القرار الصادر في 28 أيار/مايو 2020, التي تخللها دعم الأدوية كعنصر رئيسي. سياسة الدعم التي اعتمدت على ضمير التجار النائم في سبات عميق استبدلت مبدأ “حماية المستهلك” ب”معاقبة المستهلك” عبر التهويل بإلغاء الدعم بين الحين والأخر, من خلال تصريحات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يذكرنا دوما بعدم توفر دولارات لاستيراد الدواء, متجاهلاً ما يحدث على الأرض بعد تلك الكلمة.
ومع بدء نفاذ احتياطي المركزي بالدولار تدريجياً انتشرت الشائعات والأخبار حول احتمالية رفع الدعم عن الدواء، الأمر الذي كان كافيا لحث االمقدورين على تخزين الدواء انتصاراً لجشعهم, ويندرج ضمن هذه الفئة أصحاب الشركات المستوردة للدواء وبعض أصحاب الصيدليات الذين استثمروا بالأمر لمآرب تجارية. وكانت قد ذكرت مصادر صحفية أن شهادات عدد من الصيادلة أثبتت وجود مخزون كاف لدى وكلاء الادوية يسمح لهم بتسليم الكميات بشكل طبيعي إلا انهم ينتظرون رفع الدعم لبيعها بالأسعار الجديدة ليحققوا ربحاً غير مشروع. غير أن لا يمكن التغافل عن دور الأفراد بالتهافت لشراء الأدوية وتخزينها خوفاً من ارتفاع اسعارها او فقدانها من جهة، ودور المصرف المركزي بالمماطلة في فتح الإعتمادات وتأخير إعطاء الموافقة على معاملات الإستيراد لأشهر تقريبا، من جهة أخرى. كل هذه العوامل ساهمت في تفاقم الازمة وأوصلت البلد الى ما آلت اليه الأمور.
من هنا شرعت الجهات المعنية من وزارة الصحة ونقابة الصيادلة ونقابة مستوردي الدواء الى اتخاذ التدابير اللازمة في إطار مواجهة الأزمة. بدأ العمل على ضبط توزيع الدواء وتحديد كميات بيعه، وصولاً الى اعتماد سياسة التقنين بمعزل عن وضع آلية علمية وواضحة لها، وتحت مظلة التقنين يفرض المستوردون شرط الدفع “كاش” على الصيادلة مقابل الحصول على الدواء مع انهيار الليرة اللبنانية امام الدولار، كما يتأخرون بتسليم الدواء الذي أصبح وصوله بحاجة الى أسبوع كامل. كل هذا عدا عن الإستنسابية في التعاطي التي لا تفهم لغة التقنين والحفاظ على المخزون وما هنالك، ففي وقت تتسلم فيه صيدلية عادية ثلاث علب بنادول، تتسلّم صيدلية أخرى ستة صناديق مما يشير الى تحكم مافيا الدواء بالقطاع المتمثلة بشركات الإستيراد وكبار الموزعين وبعض الصيدليات، وهنا يجدر طرح السؤال: “من المسؤول عن تهريب الدواء الى الخارج في ظل الفوضى الحاصلة في السوق المحلي”؟ أسئلة جميعها لا يجد المواطن أجوبةً لها.
في 13 تشرين الثاني الماضي التزمت معظم الصيدليات بالإضراب التحذيري بموجب القرار الصادر عن تجمع أصحاب الصيدليات، على اعتبار انه الخيار الوحيد لمواجهة الكارثة التي تهددهم والمواطنين. وكان قد أضرب عدد من الصيدلات في وقت سابق لكنه لم يحصل على إجماع، إلا أنه شكل الشرارة الأولى لصرخة 200 صيدلية أقفلت محالها نهائياً، بسبب تخطي قيمة مدفوعاتها التي تُدفع بسعر سوق السوداء، قيمة مبيعاتها التي تصرف بالسعر الرسمي أي 1515. اما الآن وبالتوازي مع موجة الهجرة الحاصلة، أقفل الشهر الفائت أصحاب حوالي 600 صيدلية محالهم، بداعي الهجرة بعد أن خسروا مداخيلهم.
مطلع العام الحالي، ابتكرت شركات الادوية بدعة “السلة” التي تتضمن أدوية ومستحضرات تجميل واصناف أخرى، بمعنى ان الصيدلي الذي يطلب شراء دواء معين عليه شراء السلة كاملة، ومثال ذلك لشراء علبة بنادول يتوجب شراء معجون أسنان. البنادول الذي كان بمثابة أثاث المنزل اصبح عملة نادرة وبات يُشترى بالظرف ليتسنى لأكبر عدد من المرضى الحصول عليه. نقيب الصيادلة في لبنان غسان الأمين افاد بأن التهافت على البنادول وغيره من الأدوية يفوق الطلب ب 5 أو 6 أضعاف ويحصر الحل فقط بإعلان مصرف لبنان ان لا رفع للدعم على الاصناف التي تشبه البنادول لتفادي تضخيم التهافت. ومع تفاقم ازمة الدواء بوتيرة سريعة، بدأ شبح الانقطاع يكبر، ولم يعد الدواء الأصلي وحده الذي يختفي من على رفوف الصيدليات، بل باتت البدائل في مهب الريح، لا سيما وان اغلب الادوية المهددة بالإنقطاع تعود لأمراض الكلى والقلب والضغط وغيرها من الامراض المزمنة. اما الأسوأ من ذلك فهو انقطاع الادوية التي تصنع محلياً وتنتجها شركات لبنانية، منها ادوية الحساسية التي تستخدم كعلاج لبعض مرضى كورونا.
اليوم، بين الدولة والشركات المستوردة للأدوية ومصرف لبنان، يضيع المواطن في هذه الحلقة جاهلا مصيره، وقاطعا المسافات لإيجاد دوائه. حلقة معقدة برعاية مصرف لبنان الذي شرع باب الفوضى في سوق الدواء، وقع ضحيتها المواطنون والصيدليات، ولم تتحمل الدولة مسؤوليتها بممارسة الصلاحيات التي منحها إياها القانون لفرض الرقابة على كل معني بملف الدواء, ولم تتخذ التدابير اللازمة في الوقت المناسب. من سخرية القدر ان يتحكم اشخاص طبيعيون بصحة الإنسان الجسدية، اغلى ما يملكه للبقاء على قيد الحياة لكن يظهر أنها أصبحت ارخص الحاجات. لم يعد يبحث الفقير عن بصيص أمل بعد ان وضعوه في لعبة لا عدل فيها، فهل بتنا على قاب قوسين او ادنى من السيناريو الكارثي ؟

فاطمة جمعة

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى