الحج اللّبناني إلى موسكو… هل من دخان أبيض؟
لدى موسكو خشية من حدوث انهيار كبير في لبنان، يفرض تحولات في الإقليم ويعيد ترتيب أوراق المنطقة المضطربة. دخلت بلاد “القياصرة” في تفاصيل الشأن اللبناني منذ انخراطها في الحرب السورية. وتبدو الدبلوماسية الروسية اليوم لديها أولويات لبنانية بالدفع إلى تشكيل حكومة قادرة على وقف الانهيار، وتبدي استعداداً لمساعدة الحكومة الجديدة، بمعزلٍ عن هوية رئيسها وشكلها ولونها.
الحج اللبناني إلى العاصمة الروسية في هذا الفترة، ينتظم تحت إطار هذه الأولويات. وبعد زيارة وفد حزب الله برئاسة النائب محمد رعد ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، ستكر سبحة الزيارات. وسيجري المسؤولون الروس لقاءات مع الأطراف اللبنانية السياسية كافة، من المتوقع أن يزور رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل موسكو في 28 نيسان الحالي، بعد أن تمّ تحديد موعد للاجتماع مع وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في 29 نيسان.
ومن المتوقع أن يزور النائب طلال أرسلان موسكو في وقت لاحق مطلع شهر أيار كذلك من ضمن سياق التواصل نفسه. أما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، فزيارته متوقعة في وقت لاحق قد تكون في النصف الثاني من أيار وأيضاً ثمة زيارة مرتقبة لرئيس تيار المردة النائب السابق سليمان فرنجية لم يتم تحديدها بعد.
جدولة المواعيد الروسية للمسؤولين اللبنانيين على قارعة ترسيخ دور روسي في لبنان، تفرضه حاجة البلد الكل أنواع الدعم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، المترافق مع رغبة جزء من اللبنانيين بضرورة “التوجّه شرقاً”، بعد أن انهيار النموذج الاقتصادي الغربي على رؤوس اللبنانيين، وأحكم الحصار العربي والدولي خناقه على إمكانية إيجاد الحلول.
خط بيروت-موسكو مزدحم لكن لا يحمل حلاً للانهيار اللبناني ولا ولادة حكومية قيصرية في بلاد القياصرة
لروسيا فلاديمير بوتين، نفوذ وعلاقات تاريخية مع شخصيات وتيارات، لكنها تتمسك بمقاربة حذرة تراعي الحساسيات في هذا البلد، وتحسب خطواتها جيداً داخل المشهد البيتي المعقد كما داخل خرائط المصالح العليا لروسيا في المنطقة والعالم.
ومن الواضح أن الكرملين وموسكو ليسا مستعجلين لنقل لبنان من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، ويُدرك سياسيوها انقسام الساحة اللبنانية عاموديًا وأفقيًا حول الولاء للغرب، الأميركي أولاً. وروسيا التي أصبحت لاعبًا أساسيًا على شاطئ المتوسّط بعد دخولها بعديدها وعتادها إلى سوريا في أيلول 2015، ودعم الجيش السوري في الحرب على الإرهاب، لا تملك طموحات السيطرة والتدخل في الشؤون اللبنانية، بل يحرص مسؤوليها على انتقاء كلامهم بعناية، مع فهم كامل لميزان القوى الدقيق في لبنان.
التغلغل الأميركي في البلد الصغير لا يُخفى على موسكو وهي لن تُضيف لبنان إلى لائحة الدول التي تتنازع في ساحاتها مع الولايات المتحدة الأميركية. وبما أن التوتر يسود العلاقات بين بين موسكو وواشنطن هذه الفترة والفريقان يتبادلان مقصلة العقوبات فإن موسكو تحرص على تجنيب لبنان المنهار تبعات هذا الخصام.
هل يخرج الدخان الأبيض من موسكو ونشهد ولادة حكومة؟ بالطبع لا. ليس في جعبة المسؤولين الروس أي مبادرة لحل الأزمة المستحكمة بين المسؤولين اللبنانيين. وجُلَّ ما يتمناه الروس هو تثبيت التفاؤل في إشاعة مناخ إيجابي بين كافة الأفرقاء اللبنانيين. وبحسب مطلعين فإن العقل “البارد” لأحفاد القياصرة يمنعهم من ممارسة ضغوط أو إغراءات لإنتاج تسوية “محروقة” قد تفشل أو تنفجر في أي لحظة، على غرار فشل المبادرة الفرنسية التي أعطيت فرصة أسبوعين للتنفيذ ثم أُحرقت في مواعيد مؤجلة.
تكرار عبارة أن الحل ليس في موسكو، سمعها الزائرون اللبنانيون من الجانب الروسي، وقالها لافروف من على منب القاهرة بعد لقائه وزير خارجيتها سامح شكري، الذي بدوره وقف خلف المبادرة الفرنسية كما الجامعة العربية.
ثمة حقيقة يُدركها الجانب الروسي، مفادها أنه ما لم يصدر الضوء الأخضر الأميركي بمؤازرة سعودية لتشكيل الحكومة فإن موعد ولادتها مؤجل حتى إشعار آخر.
خلال لقاءاته الروسية، طلب الرئيس سعد الحريري من الروس المساعدة الاقتصادية، الروس ردّوا بأنه يجب أن تكون هناك حكومة أولاً. لكن الجهد الروسي للمشاركة في الاستثمار في لبنان قائم ويحتاج فقط إلى انتظام المؤسسات اللبنانية.
وقد عانى الجانب الروسي مع لبنان من صعوبات مالية واستثمارية نتيجة تبني القطاع المصرفي اللبناني سياسة العقوبات الأميركية. وكانت مؤسسات النقد اللبناني ملكة أكثر من الملك الأميركي نفسه. ولطالما تمنعت عن فتح حسابات مالية للشركات الروسية الراغبة في الاستثمار قي لبنان تحت حجة العقوبات الأميركية.
عوضاً عن أن يكون لبنان مقرًا لهذه الشركات هاجرت الشركات الروسية وأيضاً الصينية إلى مصر والأردن ودول الخليج. وبدلاً من أن تُسهل الحكومات اللبنانية منذ 6 سنوات عمل الشركات الروسية والصينية الراغبة بالاستثمار في البلد والمشاركة في إعادة إعمار سوريا، حرم التعنت اللبناني البلاد من تدفق أموال كانت ستحد من انهيار الليرة وتساعد القطاع المالي.
الدعم الروسي للإسراع في تشكيل الحكومة، قائم ولكن أيضاً هناك مصالح اقتصادية واستثمارية تريد روسيا أن تساهم عبرها في تأمين استقرار مالي واقتصادي يمنع سقوط البلد في الفوضى وربما الحرب أو تنشيط الجماعات المتطرفة. وهذا الخطر لا ينسحب على لبنان فقط بل على المنطقة ككل وعندها تتعرض مصالحها للخطر من أنابيب النفط والغاز المزمع العمل بها وصولاً إلى سلامة قواتها المتواجدة على الأراضي السورية.
الانهيار الذي تخشاه روسيا كما فرنسا، التي لم ترمي مبادرتها في البحر بعد، يبدو هو عين الفلسفة الروسية في تغليب الحوار بين القوى المتصارعة، من لبنان إلى سوريا والعراق هذا المثلث الحيوي والغني والذي يرغب الجميع أن يكون له موطئ قدم فيه.
رغبة موسكو بالدخول كمستثمر في الساحة اللبنانية، وبخاصة في مشاريع حيوية كالمرفأ وسكة الحديد بين لبنان وسوريا، قابلها دعوة إلى إشراك اللبنانيين في إعادة إعمار سوريا وتأمين إعادة النازحين إليها. بدون انتظار تأثيرات الاتفاق النووي بين أميركا وإيران على المنطقة ككل، الأمر الذي قد يطول لأشهر.
لكن الطبقة السياسية اللبنانية المبدعة في هدر الفرص، لا تملك حتى الآن الجواب الشافي لبلد القياصرة ويبدو أنهم غير قادرين على غير الشكوى من العثرات.
سمع الروس الكلام المكرر من الحريري، أن حكومته “التكنوقراطية” تعطلها الأحزاب السياسية، فيما كرر الروس نصيحتهم الدائمة بضرورة الإسراع في تشكيل حكومة قادرة على وقف الانهيار وإجراء إصلاحات عاجلة في النظام الاقتصادي ووقف الهدر وفرض سياسات عملية لمكافحة الفساد. لا يُعلٌّ الروس على معنى “الاختصاص” والتكنوقراط” فهم يُدركون أن فحوى هذا الشعار هو إبعاد خصوم واشنطن من المعادلة اللبنانية، لذا ردّد سيرغي لافروف أكثر من مرة على ضرورة مشاركة الجميع دون إقصاء أحد، ولا تحويل الحكومة إلى منصة لاستهداف أفرقاء لبنانيين، مما يمد في عمر حرب الاستنزاف وينسف التسويات.
رانيا برو