دكان لانا يختصر عوز وطن وحكاية حرمان
من الصعب أن يتوحّد اللبنانيون حول قضيّة ما، إلا أنّ الأزمة الاقتصادية الخانقة، وغلاء الأسعار وضيق ذات اليد، جمع اللبنانيين بمعاناة واحدة رغماً عن أنف الاختلاف.
فـأي قرية لبنانية نائية تتساوى مع حي كان يعيش رخاءً قبل أن يطال الفقر الجميع. وأي دكان صغير هو نسخة مصغرة عن اكبر المتاجر مقاماً من ناحية الغلاء وشكوى المشتري وعجزه حتى عن قراء أسعار سلع لم تعد بمتناول اليد.
-من العز إلى العوز
في بسابا، إحدى بلدات بعبدا، دكان لينا يختصر حكاية وطن انهار خلال أشهر قليلة ولم يعد يشبه نفسه، ولم يعد يعرف أبناءه ولا هم يعرفونه.
هو المحل الوحيد تقريباً الذي يتموّن منه اهل القرية والذي يعتبر” فشة خلق ” لجميع القاطنين في المنطقة، ففي هذا المحل الصغير تجد كل ما تحتاجه من سلع ضرورية وأخرى تعتبر رفاهية.
هذا الدكان هو مختصر لما يعانيه الناس من ضيق ذات اليد، وما ألت اليه أحوالهم من العز الى العوز.
فمثل أي قرية لبنانية، كان في بسابا الفقير ومتوسط الحال والغني، كان هذا قبل اشهر قليلة قبل ان يصبح الجميع فقراء.
لا يحتاج الأمر لملاحظته أكثر من قراءة سريعة لمشتريات الناس كيف كانت وكيف صارت.
تقول لانا وهي صاحبة هذا المتجر الصغير إنّ الحال تغيّر بشكل صادم “لم تعد حالنا كما كانت ابداً. كنا شعباً غنياً جداً مقارنة بما نحن عليه اليوم، حيث لا سخاء لا غنى ولا جرأة في الشراء”.
تكمل لانا وهي تروي حكاية دكانها وزبائنه الذين يختصرون حكاية الوطن وشعبه الذي انهار ولا يزال.
“الكل هنا يأتي متفرجاً ، يقلب الغرض وينقله من يد الى اخرى ويسأل عن سعره ثم يعيده الى الرف، والصدمة تملأ عينيه والحسرة في محياه، يتأفف يتنهد واحيانا يشتم واحيانا يكتفي بالغصة، فإن كان الغرض ملحاً اشتراه على مضض وهو يشحن نفسه بالجرأة وان كان يستغني عنه اعاده الى الرف ومشى”.
تقول لانا “قبل ثورة تشرين كانت الأمور أفضل مما كانت عليه اليوم، كانت الأمهات على سبيل المثال تشتري ما يحلو لطفلها من رف الشوكولا، فأفخر أنواع الشوكولا لم يكن يتعدّى سعره الألف ليرة، بينما اليوم بات هذا الأمر مستحيلاً، حتى أن بعض أنواع الشوكولا لم نعد نشتريها واختفت من السوق لأنّه لم يعد ثمة طلب عليها”.
-حتى الأطفال غاضبون
وتتساءل لانا التي كبر الأطفال في دكانها وهي تتحدّث عن زبائن صغار كانوا يشترون ما يحلو لهم دون أن يسألوا عن السعر، لتصفعهم الأسعار رغم صغر سنهم “تخيّلي شوكولا kinder العلبة الصغيرة ذات الاصابع الأربع بات سعرها 5 الاف ليرة.”.
تستطرد لانا وتتحدّث عن الشيبس والمشروبات الغازية “لم يكن المشتري يحسب لها حساباً، كان يشتريها لأطفاله دون تفكير، أما اليوم فباتت رفاهية باهظة الثمن”.
كيف يتصرّف الأطفال في حضرة سلع كانت بمتناول يدهم وباتت حلماً صعب المنال؟ تقول لانا “الاطفال باتوا يعرفون جيدا ان السوق ليس سوياً”.
تخبرنا عن طفل اشترى كيس شيبس، وعندما فتحه ومدّ يده داخله مخرجا الحبات القليلة منه، انفجر في وجهها غاضباً وقال “هذا كيس فارغ عم تضحكي علي! اريد كيسا آخر”، وعندما اخبرته أنّ كل الاكياس باتت تحوي القليل من البطاطا صرخ قائلاً “هؤلاء حرامية” .
-سلع لم يعد لها زبائن
اختلفت ذهنية المشتري وتبدلت خلال أشهر قليلة، فحتى الزبون الميسور لا يشتري ما يحتاجه قبل التحقق من السعر، فبعض الأسعار باتت تصفع حتى الميسورين.
تحكي لانا عن السلع التي لم يعد لها زبائن بعد أن كانت قبل أشهر سلعاً بديهية ومهمة مثل مساحيق الغسيل ariel وpersil، ومعطر الغسيل وشوكولا نوتيلا وشامبو head&shoulders والأجبان الاجنبية الصفراء، وصلصات البيتزا والتونا.
تقول “الزبون اليوم يسأل عن اصناف بديلة ارخص . فنحن انفسنا كأصحاب محل نفاجىء بنوعيات سلع لم نكن نعرفها ولا نشتريها، لكن الوضع الحالي يحتم علينا ان نغير حتى نلبي حاجات الزبون”.
تتابع لانا “نحن ايضا لم يعد رأسمالنا يحتمل شراء هذه السلع . فكيف لي ان اشتري كيس إريال 4 كيلو ب 75 الف وبكم سأبيعه؟”.
وتفتح لانا قصة المشروبات الروحية فتقول “هناك اشخاص يهمهم شراء قنينة ويسكي قبل شراء الطعام، هؤلاء أقلعوا رغماً عنهم عن هذه العادة، فنحن لم نعد نبيع هذه الاصناف الا نادرا، وهؤلاء استبدلوا الويسكي بشراء ارخص انواع العرق الذي لا يزال سعره مقبولاً.
أما عن مبيع الدخان فتصف الأمر بأنه بحكاية خرافية ” اللبناني كان يدخن بمعظمه الدخان الاجنبي وما كنا نلحق اليوم. الكل استبدل تبغه بالوطني وبأنواع رخيصة نحن بحثنا عنها في السوق . هذا وبات الدخان الوطني “يلي ما كان حدا يطلع فيه ” سعره اغلى من الاجنبي قبل اشهر”.
-مشط الحرمان يساوي الجميع
تتحسّر لانا لأنّ الزبون “يظن اننا نحن كتجار صغار سبب الغلاء، لكن الحقيقة هي أنّ الغلاء سببه ارتفاع الدولار وجشع التجار الكبار الذي لا يشبعون”. وتخبرنا لانا عن وكيل إحدى أنواع المرتديلا، الذي رفع اسعاره جدا مع ارتفاع الدولار، تقول إنه اليوم “لا يسلمنا البضاعة لأنه ينتظر ارتفاع الدولار ليرفع أسعاره أكثر علماً أن الدولار انخفض ولم يقم بتخفيض أسعاره”.
وتتابع “وضعنا كتجار صغار لا يقل سوءاً عن وضع اي لبناني، لقد فقدنا رأسمالنا وبضاعتنا . كنا نبيع الغرض صباحاً بسعر اقل مما نشتريه ظهراً، وفي حين كنا نشتري عدة صناديق من المعلبات اليوم بتنا نشتري بالحبة. تعب السنوات راح ورفوف محلنا فرغ وليس لدينا القدرة على شراء الكميات التي بعناها. “.
ماذا يأكل اللبناني في هذا الوضع؟ هل يأكل الحبوب؟
تجيب لانا فوراَ “أبداً، الحبوب باتت اللحم النباتي الذي لا تحتمل أسعاره. الفاصوليا اليوم بسعر اللحمة البارحة، فالكيلو أصبح بـ 11الف ليرة . اللبناني اليوم يأكل الخضار والحشائش والبطاطا فهي الأرخص اما المعكرونة فبات سعرها جنونيا، وكل الماركات الجيدة والمعروفة من قبل الجميع استبدلت بماركات ليست معروفة”.
هذا التبدل لم يقع على فئة معينة بل طال الجميع الغني ومتوسط الحال. تقول “في بلدتنا لا يوجد فقراء بالمعنى العميق للكلمة، لكن اجزم أن الكل بات فقيرا الان والكل يختصر ويسأل ويتقشف”.
دكان لانا يؤمن الديليفيري للمنازل، وقد اضطر لإعطاء أسعار السلع سلفاً، لأنّ معظم الناس باتوا يعيدون السلع التي يطلبونها لأنّهم يفاجأون بأسعارها تقول
“يردون ما يطلبونه والاعتذار يكون سيد الموقف المحرج لهم، لكني اتفهمهم ولا اعتب عليهم.”.
تجزم لانا أنّ القدرة الشرائية تراجعت عند الجميع باستثناء قلة لديهم معيل في الخارج يرسل إليهم العملة الأجنبية، ما زالوا يدخنون المارلبورو ويشترون قنينة الوسكي ويأكلون القشقوان أما عدا ذلك “فمشط الحرمان يساوي الجميع” تقول لانا مختصرة حياة شعب كامل انقلبت حياته خلال أشهر قليلة وسقط من أعلى ولا يزال… لا يعرف ما ينتظره في نهاية القعر.