رحيل ابن الجولان المخرج حاتم علي… صائغ الدهشة وملوّن التاريخ
المخرج المبدع لوَّن تاريخ العرب من "الزير سالم" إلى "التغريبة الفلسطينية" و"فاروق" و"عمر" وأعمال فارقة على مدى 30 عامًا
ألمٌ مضاف ووداعٌ أخر لمبدع صاغ الوجدان العربي بأسلوبه الدرامي. حاتم علي يودع الحياة ويطوي أحلامه الكبيرة.. أزمة قلبية تُطيح بقلب المخرج العربي السوري ابن الجولان المحتل لتجعل من العام 2020 عامًا جنائزيًا ثقيلًا، وتنقّل الدراما العربية إلى عالم النحيب. حاتم علي “عاشق التاريخ” الإمضاء الذي يُذيّل الأعمال الدرامية وذاكرة هويات العرب، إنجازاتهم نكباتهم وخذلانهم وترحالهم، يغيب عن الحياة الدنيا بعد أن رسم في أعماله معالم التاريخ، وبنى عوالم منصفة وملوّنة للتاريخ والجغرافيا والذاكرة العربية. رحيل صائغ الدهشة حاتم علي يُصيب قلب الإبداع العربي بجراح تؤلم الألم الذي أصابه ويُصيبه مع كل خسارة وفُقدان يُضاف إلى هذا العام غير المأسوف عليه لما خلّفه من أوجاع ونكبات على العالم.
ومضيت وكأنما ما اعجبك الفراق” قد تختصر حال المخرج العربي الذي عاش ألم فقدان والده مع مطلع العام الحالي ليلتحق به مع آخر أيام السنة التي تلتحق بأيّام المرّ بآلام أشد مرارة.
في صباح آخر أيّام السنة الوبائية المنكوبة على كل الصُعد، فُجع الوسط الفني السوري والعربي بخبر رحيل المخرج حاتم علي الذي توفي صباح الثلاثاء جرّاء أزمة قلبية مفاجئة في القاهرة وقد عُثِرَ عليه جثة هامدة داخل غرفته بفندق ماريوت في العاصمة المصرية. وكان حاتم علي يعمل في الآونة الأخيرة على إنجاز مسلسل “سفر برلك”، كما كان يعمل على مشروع فيلم سينمائي عن “الزير سالم” مع الكاتب زياد عدوان النجل الأكبر للأديب ممدوح عدوان الذي كتب تُحفة المسلسلات التي أخرجها حاتم علي.
صاحب “التغريبة الفلسطينية” الذي عاش حياة النزوح والتهجير كانت له طفولة حزينة، ككل أبناء التغريبة السورية الذين عانوا ويلات من انتزعوا من أرضهم، فقد نزحت عائلته من الجولان وسكنت أطراف مخيم اليرموك حيث عانى من شظف العيش والصعوبات المادية والاجتماعية في طفولته، وقد عبر عن هذه المرحلة الكاتب “فجر يعقوب” في كتابه “الاستبداد المفرح” والذي شمل حوارات مع الراحل عبر 4 سنوات، قد تقدم بطلب للهجرة في كندا ونال الموافقة على الطلب دون أن ينتقل إليها حيث كان مشغولًا بأعمال جديدة لم يكتب لها أن تُنجز مع رحيله.
ولد حاتم علي في الثاني من حزيران عام 1962، في إحدى قرى الجولان السوري. أحب الفن السابع فدرس التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وتخرج ضمن الدفعة السادسة عام 1986 التي ضمت غسان مسعود وماهر صليبي والممثلة دلع الرحبي التي تزوجها لاحقًا وحضرت بدورها في الكتابة الدرامية والتمثيل المسرحي. بدأ حياته الفنية كممثل مع المخرج هيثم حقي عندما شارك في مسلسل “دائرة النار”. وتوالت مشاركاته في الأعمال الدرامية، مجسدًا شخصيات ومتنقلًا بين الأدوار التاريخية والبدوية والشخصيات المعاصرة، كما له مشاركات مع رائعة الفنان ياسر العظمة “مرايا”.
المخرج الموهوب انتقل من أمام الكاميرا إلى ورائها ليصيغ أجمل أعمال الدراما العربية ويصبح أحد أهم المخرجين العرب في 30 عامًا الأخيرة:
مسلسل “الفصول الأربعة”، (الجزء الأول عام 1999 والجزء الثاني 2002) كان باكورة أعماله الدرامية التي لا يملّها المشاهد العربي، صُنِّف ضمن الكلاسيكيات العربية وهو يحكي قصة عائلة دمشقية ومقارباتها اليومية للعادات والتقاليد والقيم.
وفي العام 2000 قدَّم علي مسلسل “الزير سالم”، فرفع إسمه إلى مرتبة المخرجين الكبار ورسَّخه في الوجدان العربي من المحيط إلى الخليج، فيما لم تتعدَّ ميزانية المسلسل المليون دولار لكنّه كرّس الأعمال التاريخية في ذائقة المشاهد العربي. ويجسد المسلسل شخصية عدي بن ربيعة وهو فارس وشاعر ينتمي إلى الجاهلية قبل الإسلام، ويتطرق إلى أحداث حرب البسوس.
في ثلاثية الأندلس “صقر قريش 2002″ و”ربيع قرطبة 2003″ و”ملوك الطوائف 2005” غاص حاتم علي في تاريخ العرب في بلاد الأندلس من نشأة الخلافة الأموية حتى سقوط غرناطة.
أمّا فلسطين التي أحبها بعد أن وُلِد على تُخومِها وعاش يوميات الحزن مع أبناءها في مخيم اليرموك، فكان لها مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الذي أنتِجَ عام 2004، ليكون واحدًا من أفضل ما أنتجته الدراما العربية عن القضية الفلسطينية، وحاز على جوائز من عدة دول عربية. وقد أرَّخ المسلسل لرحلة أجيال الفلسطينيين النكبة والنكسة ورحلة الشتات واللجوء الفلسطيني خلال القرن العشرين والمقاومة والجهاد في الثلاثينيات حتّى الستينيات. ويروي المسلسل قصة أسرة فلسطينية فقيرة تكافح من أجل البقاء في ظل الانتداب البريطاني ثم في فترة الثورة الفلسطينية الكبرى، وفي خيم اللجوء بعد النكبة، وتلخص الأحداث التي مرت بها الأسرة حقبة تاريخية مهمة في حياة الفلسطينية، والتي امتدت منذ ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي. “العالم كله تآمر علينا ورمانا للخيمة، عشان هيك صار كله حقنا، اللي ملوش بيت كل البيوت حقه، اللي ملوش حق كل الدنيا حقه”. هذه العبارات في أحد مشاهد المسلسل باتت ملازمة لوصف هم اللجوء والنزوح والتهجير التي يرددها الجمهور العربي.
وفي التاريخ أيضًا غاص علي في مرحلة حكم “الملك فاروق” عام 2007، ليروي قصة مؤسس مصر الحديثة آخر من حكم مصر من أسرة محمد علي. ويحكي “صراع على الرمال” وهو ميلودراما بدوية قصة الصراع بين قبيلتين عربيتين في مطلع القرن الثامن عشر، وهو من تأليف هاني السعدي وأشعار حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. أمّا مسلسل “عمر” من إنتاج عام 2012، فيُعد الأضخم ووصلت تكلفته إلى 200 مليون ريال سعودي أراده شهادة لتصحيح صورة الدين الإسلامي. أمَّا “قلم حمرة”، الذي أُنتِج عقب انطلاق الحرب على سورية فكان أحد أبرز الأعمال الاجتماعية التي تطرقت إلى الأزمة، والتحولات في أحوال المجتمع السوري.
وفي العقد الثاني من الألفية الثالثة قدّم أيضًا مسلسلات اجتماعية ورومانسية مع نجوم كبار مثل “طوق الياسمين”، “أحلام كبيرة”، “العرّاب” ،”حجر جهنم”، “تحت الحزام” و”أهو ده اللي صار” من بطولة أحمد داود وروبي والذي يُعرض على منصة “نتفليكس” الرقمية ويتصدر قائمة الأعلى مشاهدة في مصر والعالم العربي. وكان المخرج حاتم علي، حاصد الجوائز، يستعد لتصوير الفيلم السينمائي “محمد علي باشا” من سيناريو د. لميس جابر، ومن إنتاج “غود نيوز” وبطولة يحيى الفخراني قبل أن يغدر الموت.
لم ينهزم المخرج الراحل أمام التاريخ واللغة والعروبة والأمراض التي أصابتها وتُصيبها، بل عمِلَ على تصويرها وتقديمها لذاكرة أجيال متعددة، ليُعزّز الهوية العربية من جيل إلى جيل لهذا رثاه معظم العرب بالرغم من انقساماتهم وخلافاتهم، الإبداع لا يُحجب ولا الجمال فكيف إن كان هاجسه التاريخ والجغرافيا والهم الانساني. حاتم علي العربي السوري الذي رفض أن ينقاد إلى ضفة المنقلبين على بلاده بل طالب بالحفاظ على المؤسسات السورية، آمَنَ أن الحرية هي أساس الإبداع، والعالم العربي يحتاج إلى مساحة من الحرية لخلق بيئة ثقافية واجتماعية. سيبقى رثائه ماثلًا في قلب الدراما العربية وفي مناهل المعرفة التي قدمها للناس من خلال إضاءاتها التاريخية التي تلوّن أمسياتهم بالدهشة.
رانيا برو