
تعيش سوريا مرحلة مفصلية في تاريخها الحديث، تتقاطع فيها التحركات العسكرية الإسرائيلية في الجنوب مع الأنباء عن تمركز عسكري أمريكي في العاصمة دمشق. هذه التطورات ليست متفرقة كما قد تبدو، بل تمثل ملامح مقاربة جديدة لإدارة سوريا بعد سقوط نظام الأسد، مقاربة تقوم على فرض وصاية دولية مباشرة، تعيد تعريف مفهوم السيادة وتوزيع مراكز القوة داخل البلاد.
منذ صعود أحمد الشرع إلى الحكم، بدا أن النظام الجديد ورث دولة منهكة أكثر مما ورث سلطة قائمة. فقد استغلت إسرائيل الفراغ العسكري في الجنوب لتفرض أمراً واقعاً أمنياً عبر إنشاء قواعد وتوسيع المنطقة العازلة إلى عمق ثلاثين كيلومتراً تقريباً. هذه التحركات لم تكن مجرد ردع دفاعي، بل عملية مقصودة لإضعاف قدرة دمشق على السيطرة على حدودها الجنوبية، وإجبار الشرع على الدخول في تفاهمات قسرية وهو في أضعف حالاته.
بالتوازي، انتقلت المعركة إلى الميدان الدبلوماسي. فالقضية الإنسانية، وبخاصة ملف دروز سوريا، تحولت إلى أداة ضغط أميركية ذكية. فالمقترح القاضي بمرور المساعدات عبر دمشق تحت إشراف لجنة ثلاثية لم يكن حلاً إنسانياً بقدر ما كان خطوة لتكريس مبدأ الوصاية الدولية على القرار السوري. ومع محاولات الشرع إيجاد توازن عبر موسكو، بدا أن هامش المناورة يضيق يوماً بعد يوم.
وجاء تقرير وكالة “رويترز” الأخير حول تثبيت وجود عسكري أمريكي في دمشق ليكشف عمق التحول الجاري. فقبول النظام بهذا الوجود يعني عملياً انتقال القرار السيادي من الداخل إلى الخارج، وتحول واشنطن من وسيط إلى جهة إدارة مباشرة للشأن السوري. وبذلك أصبحت العاصمة السورية نفسها خاضعة لإشراف أمني وسياسي دولي، فيما يتآكل نفوذ الشرع تحت وطأة الكيانات المستقلة والضغوط المتزايدة.
أما مشروع قرار مجلس الأمن رقم 2799، فقد أضفى بعداً قانونياً لهذه التحولات، إذ وضع سوريا ضمن إطار “القوة الدولية الموجَّهة”، مانحاً القوى الكبرى حق التدخل المباشر بموجب الفصل السابع. وهكذا انتقلت السيادة من كونها حقاً مطلقاً إلى “حق مشروط بالأداء”، تُقاس شرعيته بمدى التزام النظام بالمعايير الدولية.
في هذا السياق، تبرز السويداء كمحافظة تتقاطع فيها المصالح الدولية مع تطلعات محلية للاستقرار والسيادة. فمن جهة، يشكّل الوجود الأمريكي في دمشق مظلة أمنية غير مسبوقة للجنوب السوري، ويمنح السويداء فرصة لتثبيت موقعها كشريك محتمل في إعادة بناء الدولة. ومن جهة أخرى، يهدد هذا الواقع بتحويل الحماية إلى وصاية، ما لم تُحسن القوى المحلية إدارة علاقاتها مع العواصم الغربية على قاعدة الشراكة لا التبعية.
لقد فشل أحمد الشرع في احتضان المكونات السورية، وعلى رأسها دروز السويداء، وفقد قدرته على تقديم مشروع وطني جامع يرمّم الثقة بالدولة. ومع ضعف المركز، باتت الأطراف – وفي مقدمتها السويداء – تبحث عن خياراتها الخاصة، وعن إطار سياسي يحفظ توازنها بين متطلبات الأمن والكرامة والسيادة.
إن اللحظة الراهنة تمثل للسويداء فرصة تاريخية لتثبيت مكانتها ضمن سوريا الجديدة، شرط أن تتعامل مع الواقع الدولي بذكاء دبلوماسي وحذر استراتيجي. فالمعادلة لم تعد تقوم على من يرفع الشعارات الكبرى، بل على من يمتلك المؤسسات القادرة على فرض حضوره في أي تسوية قادمة.
في النهاية، ما تشهده سوريا اليوم ليس مجرد تبدل في موازين القوى، بل ولادة مشهد سياسي جديد يُعاد رسمه من الخارج. لكن المفارقة أن هذه الوصاية المفروضة قد تفتح الباب أمام السويداء لتتحول من هامش منسي إلى نموذج محتمل للحكم المحلي المستقر، شريطة أن تمتلك الحكمة لاستثمار التوازنات لا الارتهان لها.



