
منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد، تأمل السوريون إعادة بناء دولة المؤسسات والقانون والاختلاف بعيدا عن مسار العنف الأهلي والطائفي الذي أجّجه النظام السابق ولعب من أجل تفريق أبناء الشعب الواحد وتقسيمه وفق الطوائف والهويات والأديان والأعراق، لكن يبدو أن من سيطر على السلطة أقنع نفسه ومن حوله أن من “حرّر يتفردُ بالقرار”، واستحوذ على الحكم وعوض أن يدخل إصلاحات على مؤسسات موجودة وقائمة منذ عشرات السنوات هدمها بتعلة محاربة فلول النظام فيها، لتصبح مهمة البناء صعبة وشبه مستحيلة، سيما وأن عيّنهم في هذه المؤسسات من أتباع هيئة تحرير الشام أغلبهم أتوا من ساحات المعارك إلى السلطة، أتوا واياديهم ملطخة بالدماء، وأخذوا المناصب التي لايقدرون على إدارتها حتى.
أحمد الشرع الذي عٌين يوم 29 يناير 2025 ، لرئاسة الفترة الانتقالية، وهو زعيم هيئة تحرير الشام، كَلّف نفسه وعينته الهيئة برئاسة المرحلة التي عوض الأشهر باتت سنوات، انفجرت الأوضاع بكل الجبهات وأصبحت السيطرة عليها مهمة شبه مستحيلة خاصة وأن الأسباب” طائفية”.
هروب النظام السابق وسقوط” آل الأسد”، المتهم بقتل شعبه بالكيماوي وابادته بالاسلحة المحرمة دوليا لم يٌنهي المأساة السورية بل بانت طرقا أخرى للصراع ومسارات تأجيج كانت موجودة لكن اليوم بأساليب مختلفة، كتلك التي بدأت في الساحل السوري مع الطائفة العلوية بتقتيل النساء والرجال والأطفال ونصب المشانق بتعلة أنهم من فلول الأسد، وكان التحريض عبر مواقع التواصل الاجتماعي مساهما في تأجيج الوضع حيث تواترت الدعوات لقتل الإنسان ذو الطائفة العلوية انتقاما من هويته وكأنه أذنب على شيء لم يفعله، وبرغم التنديد الدولي والإقليمي بمجازر الساحل الا أن السيناريو السوداوي امتد إلى المسيحيين باستهدافهم في الكنيسة ولم يتوقف العنف هناك بل وصل السويداء حيث نٌصبت المشانق مجددا أمام أعين الكاميرا، وكانت الإنتهاكات فظيعة وأُنتهكت حٌرمة البيوت وأٌختطفت النساء والرجال الى اليوم لايٌعرف عن مصيرهن شيئا، كلها أجزاء فقط من مشهد دراماتيكي حزين لايرتقي لتطلعات السوري الذي تحمل كثيرا وضحّى بكل مايملك من أجل وطن حر يستوعب كل الاختلافات ويتقبل الكل دون إقصاء مبني على أساس طائفي او عرقي أو ديني، لكن هيهات، يبدو أن الحلم بعيد المدى لاعتبار أن من يحكم ويمسك زمام الأمور يريد تكلم لغة واحدة ورؤية مذهب واحد والحديث عن دين واحد، في دولة تعتبر فسيفساء الشرق الأوسط من ناحية التنوع الديني والعرقي، وهذا اللون الواحد والحزب الواحد الذي يجب أن يكون سوريا تك تدوينه في إعلان دستوري أكدت فيه السلطة التي تفردت بالكتابة أيضا أن الحاكم يجب ام يكون سني وان سوريا ”جمهورية عربية”، وماذا يمكن أن يفهم الكردي والعلوي والايزيدي والاشوري والدرزي من هذا؟ أنه لا مكان له في وطنه؟.
نتيجة ذلك الإقصاء الذي بدأ مع حوار وطني أقصيت فيه كل المكونات والأحزاب السياسية والمجتمع المدني وحضر فقط الموالون، ونتيجة الإعلان الدستوري الذي اعتبر سوريا دولة عربية سنية، تجددت الصراعات وكلها تتأجج من دمشق وسلاحها مليشيات هيئة تحرير الشام والشبيحة غير المعترفة بالاختلاف.
الأكراد طالبوا بحوار منذ سيطرة الشرع الحكم على الحكم وأكدوا حقهم في المشاركة السياسية وفي ظروف يٌدمج فيها الكرد بعد حقبة من العنف والإقصاء واللا اعتراف وهذا يكون عبر دستور يشمل الكل دون عنف ويضمن حقوق جميع الطوائف، علاوة على شرط دمج قوات سوريا الديمقراطية في المؤسسة العسكرية والأمنية الذي حسب هؤلاء يجب أن يكون وفق بروتوكول وشروط واضحة.
ليس الكرد فقط يطالبون بحفظ الحقوق، كل المكونات تطالب بذلك وهو حق أساسي يجب أن توفره الحكومة الانتقالية مهما كانت ظروفها إذا كانت فعلا تبحث عن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي وإعادة إعمار الأرض التي نٌهبت ثرواتها من قبل النظام البائد ويستمر الاستغلال اليوم من قبل عائلة الحاكم حيث تحدث تقارير عن تدخلات لوالد الشرع بوضع يده على عديد المؤسسات والانطلاق في مسار من سبقه.
ولا يمكن أيضا تجاوز أزمة السويداء المحاصرة حيث تعد حلحلتها عائقا أمام استقرار لسوريا فقط بل المنطقة سيما وأن إسرائيل تلعب على مسألة التفرقة ودس السم لإثارة الفوضى والبلبلة، وهو أمر يفهمه أهل تلك المحافظة الذين برغم التجويع والقتل والاستهداف المباشر الا أنهم يكافحون ويقاومون من أجل العيش بسلام وبحرية ودون عنف.
ولا يغيب على أي فرد أن الصراعات الداخلية والتوترات التي تغذيها القوات التابعة لدمشق والتدخلات الأجنبية والتهديدات المستمرة يُعقدٌ جهود الاستقرار، علاوة على استمرار الأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة وارتفاع اسعار المواد الغذائية، كلها مآسي تنتظر الحلول الجذرية لكن ليس بصوت واحد بتضافر كل الجهود وتجمع الكل دون تمييز على الحوار لأن الحل لم يكون فرديا هذه المرة.
لكن اللافت أن هذه الحكومة الانتقالية التي كلفت نفسها بإدارة المرحلة وباتت تبحث عن الحلول من الخارج وتبحث عن التعاطف والتضامن الدولي والدعم الخارجي، نسيت أن تبدأ من الداخل بالتفاوض مع من تستمر في تهميشهم، بل تتناسى أن الاستقرار يكون من الداخل ولن ينفع الأجنبي مادام الجرح الداخلي مفتوحا ولم يغلق، فكيف يكون الحل والسوري المختلف طائفية ودينيا لا يٌعترفٌ به من قبل دولته، علاوة على أن الحكومة الحالية تركت الملفات السابقة وإرث بشار الأسد من المختفيين قسريا والمغيبين دون حلول ولم تحاول حتى النبش لمعرفة مصير هؤلاء وماذا حدث لهم، إضافة إلى ملف المعتقلين الذين لم تنصفهم الدولة بعد برغم سنوات الجمر التي عاشوها في معتقدات الأسد.
كثيرة هي الملفات التي تنتظر لفتة النظر والحلول العاجلة لكن يبدو أن دمشق بعيدة عنها كل البعد عن هذا الأمر، ولا يمكن تجاوز أزمة المهجرين قسريا من عفرين ورأس العين التي لازالت تحت وطأة العنف التركي بتعلة حماية الأمن القومي.
ملفات حارقة تنتظر النظر والوقوف بشكل جماعي لحلها وتجاوز جرح الماضي لبناء سوريا التي تستوعب الكل دون تقزيم وإقصاء، ودولة الحريات والاختلاف والتعايش السلمي.