هل تقترب «الأونروا» من الإنسحاب من لبنان؟ أزمة ماليّة غير مسبوقة تهدّد وجودها
منذ أكثر من 75 عاماً، شكّلت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، شريان حياة للاجئين الفلسطينيين في لبنان. لكن الأزمات المتلاحقة منذ العام 2023 وضعت مستقبل هذه الوكالة في دائرة الخطر، وهدّدت مسألة استمرارها في تقديم الخدمات. فالتمويل الشحيح الذي بدأ يخفّ تدريجياً لاعتبارات عديدة، والتوترات الأمنية في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، انعكست مباشرةً على الخدمات التعليمية والصحية والإنسانية وتحسين ظروف المخيمات، ما أثار مخاوف واسعة بين اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين، على حدّ سواء.
بدأت «الأونروا» خلال السنوات الماضية تُواجه ضغوطًا متزايدة، على ما تقول أوساط ديبلوماسية، تُهدّد قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان منذ النكبة. فمدارس التعليم التي تديرها الوكالة، وعددها الحالي 65 مدرسة، تُواجه تحديات كبيرة بحسب بيانات «الأونروا» لهذا العام، وتشمل: اكتظاظ الفصول، نقص الموارد التعليمية والبنية التحتية، وصعوبة توفير الكتب واللوازم المدرسية. وهذه الظروف تزيد من خطر التسرّب المدرسي، وتؤثر على استمرارية التعليم اللاجئين الفلسطينيين. علماً بأنّه يستفيد من هذه المدارس نحو 39.144 طالباً فلسطينياً، وتشمل التعليم الأساسي والثانوي، وهي موزّعة على المخيّمات الفلسطينية والتجمعات السكانية خارجها.
وفي ما يتعلّق بالرعاية الصحية، تلفت الأوساط إلى وجود 26 مركزاً حالياً مع موارد محدودة. فهي تُقدّم خدمات صحيّة أولية للاجئين الفلسطينين تشمل: الطب العام، الأمومة والطفولة، الرعاية الوقائية، والعلاج للأمراض المزمنة. غير أن الموارد المالية والبشرية التي باتت محدودة، تُعرّض جودة الخدمات الصحية للضغط. كما أنّ أي تقليص إضافي في هذه المراكز سيزيد من اعتماد اللاجئين على القطاع الصحي الخاص، الذي يصعب تحمّل تكلفته.
وبالنسبة لوضع الوكالة المالي والإجراءات التقشفية ، كشفت الأوساط بأنّ «الأونروا» واجهت هذه السنة (2025) عجزاً مالياً بلغ نحو 200 مليون دولار، الأمر الذي أثّر على قدرتها على الاستمرار بتقديم الخدمات بشكل كامل، ما جعل أصوات بعض اللاجئين الفلسطينيين تعلو مع المعاناة من العوز والحاجة وتقليص الخدمات، التي اعتادوا على الحصول عليها من الوكالة.
وكإجراء للتقليل من الأثر على سائر اللاجئين الفلسطينين في لبنان، إذ يبلغ عدد المسجّلين لدى الأونروا حتى آذار 2023، على ما تذكر الأوساط، نحو 489.292 شخصاً، منهم نحو 31.400 لاجئ فلسطيني من سوريا، تقدّم «الأونروا» في لبنان خدمات أساسية لنحو 200 ألف لاجئ فلسطيني فقط (بسبب الوفاة والهجرة). وقد قامت أخيراً بتقليص بعض الخدمات نتيجة النقص الحاد في التمويل، وتأجيل بعض المشاريع التشغيلية، في محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من تقديم الرعاية التعليمية والصحية.
ولكن هل يُهدّد النقص الحاد في التمويل بتوقّف «الأونروا» عن عملها، أو إغلاق مكاتبها في لبنان بشكل نهائي، تؤكّد الأوساط الديبلوماسية بأنّه حتى خريف العام الحالي، لم تُعلن «الأونروا» عن نيتها الانسحاب الكامل من لبنان أو إغلاق مكاتبها نهائياً، لكنها حذرت من أن استمرار العجز المالي قد يؤدي إلى المزيد من التخفيضات في الخدمات.
وكان المفوّض العام للأونروا فيليب لازاريني قد حذّر في تصريحات سابقة، من أنّ استمرار النقص في التمويل قد يؤدّي إلى إغلاق بعض المكاتب، والى خفض كبير في الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية وخدمات الدعم الغذائي.
فالوضع المالي للوكالة يبدو حرجاً في العام الحالي، ولم يتمّ تغطية سوى نصف ميزانيتها، ما يجعل استمرار تقديم الخدمات على المستوى نفسه شبه مستحيل. ولهذا، أوضحت الأوساط أن «الأونروا» تعمل حالياً على تأمين تمويل إضافي من الدول المانحة لتغطية الفجوة المالية، سيما وأنّ ميزانيتها التشغيلية لهذا العام تبلغ 880.2 مليون دولار أميركي، وأنّ الفجوة التمويلية من هذا المبلغ وصلت إلى 153 مليون دولار في العام الماضي (2024)، كما بلغت الميزانية 848 مليون دولار في العام 2023، مع فجوة مالية قدرها 126 مليون دولار. فتوقّف بعض الدول عن دفع مساهماتها، أثر على الميزانية المخصّصة للبنان. كما أنّ أي تقليص إضافي في الخدمات سيزيد من المعاناة لدى اللاجئين، خصوصاً في التعليم والصحة، ويؤثر على استقرار الأسر الفلسطينية فيه.
كما تحاول «الأونروا»، وفق الأوساط، تأمين مبلغ 2.164 مليار دولار أميركي لندائها الطارىء، الذي يشمل لبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية المحتلّة، سيما وأنّ استمرار الأزمة المالية يعني أن التخفيضات غير القابلة للتجنّب ستحدث عاجلاً أم آجلاً.
ويشير المراقبون إلى أن هذه التحديات المالية والتشغيلية تتزامن مع ضغوط سياسية أوسع على ملف اللاجئين الفلسطينيين، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة حقّ العودة ومسألة التوطين.
في الوقت نفسه، ينعكس وضع «الأونروا» على المحيط اللبناني، فتراجع خدماتها يضع ضغطاً إضافياً على المدارس والمستشفيات اللبنانية، ويزيد من هشاشة المخيمات والتجمعات الفلسطينية في البلاد، ما قد يؤدي إلى توترات اجتماعية إضافية. من هنا، تقول الاوساط بأنّ «الأونروا» في لبنان تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، فاستمرارها في تقديم خدماتها ليس مجرد مسألة إنسانية، بل عامل استقرار أساسي للمخيّمات الفلسطينية والمجتمع اللبناني ككلّ. كما أنّ أي تخفيض إضافي أو تراجع في الخدمات، سيترك آثاراً بعيدة المدى على حياة اللاجئين الفلسطينيين، وعلى اللبنانيين المضيفين أيضاً.
