منوعات

جعجع في الحفرة

خلال الأشهر الثلاثة الماضية تدرّجت القوات اللبنانية؛ من هجوم إلكتروني مركّز على النائب بولا يعقوبيان، تساوى فيه جيشها مع جيش العونيين الإلكتروني؛ إلى هجوم سمير جعجع المركّز على شعار “كلّن يعني كلّن”، وإعداده حلقات تثقيفية مصوّرة لدحض هذه المقولة، التي شكّلت حجر الأساس لثورة 17 تشرين؛ إلى اجتهاد هائل لانتقاد النواب المستقيلين ومحاولة إيهام الرأي العام أنّ عدم استقالة نواب القوات أفضل من استقالة نواب الكتائب وزملائهم.

الثورة تسحب البساط من جعجع

ولم تلبث القوات أن تجاوزت العونيين بأشواط في مهاجمة نقيب المحامين ملحم خلف، باعتباره “زلمة برّي” على حد تشهيرهم، قبل أن يفيض توتر القوات المتراكم من الثورة وثوارها في الانتخابات الطلابية. وهناك، مع إعلان النتائج، ظهر السبب جليّاً لكل ما تفعله القوات منذ أشهر: مرة أخرى، يقع جعجع في الحفرة التي كان يُفترض أنه يحفرها لشقيقه. فهو عجز عن إقناع الرأي العام أنّه “ليس منهم”، وها هي الثورة تسحب البساط الشعبي من تحته.

نقطة الانطلاق لفهم ما يحصل هي التالي: هناك المنتسبون للقوات اللبنانية؛ هؤلاء ثابتين راسخين، لا يتأثرون بشعار أو هتاف أو حالة ظرفية؛ حالهم من حال المناصرين لجميع الأحزاب الاخرى. لكن هؤلاء في هذا الحزب كما في جميع الأحزاب، لا يصنعون حالة شعبية كبيرة، مهما بلغ عديدهم. ففي أكثر البلدات نفوذاً قواتياً، يستحيل إيجاد اكثر من 10 بالمئة من أبناء البلدة منتسبين إلى حزب القوات، وهؤلاء ما زالوا على حالهم قوات لبنانية.

لكن منذ عام 2005 بدأ يتكوّن حول هؤلاء طبقة من غير الحزبيين الذين يرون أنّ القوات أفضل من غيرها من الأفرقاء السياسيين. ومع منتصف عام 2018 كانت هذه الطبقة من المؤيدين، قد بلغت الذروة لجهة سماكتها، حيث نجحت القوات في استمالة الغالبية العظمى من جمهور 14 آذار، غير الحزبي.
وهنا لا بدّ من فتح نافذة للقول إنّ التيار الوطني الحر وجد طبقة شبيهة بهذه الطبقة تحيط به عام 2005، لكن سرعان ما بدأت هذه الطبقة بالتفكك ابتداء من عام 2006، حتى عاد التيار عام 2018 ليكون التيار فقط، دون هذه الطبقة أو أية إضافات.

القوات تفشل في إقناع الناس

لكن، ماذا يحصل مؤخراً مع القوات؟ منذ 17 تشرين حضرت القوات في جميع الساحات، وكان حضورهاً طاغياً جداً في بعض الطرقات المقطوعة؛ لكنها وبالرغم من هذا كلّه، ورغم كل محاضرات سمير جعجع المصوّرة، لم تستطع إقناع الناس أنّها ليست واحدة منهم؛ “كلّن يعني كلّن”.

مع العلم أنّ شبابها اضطروا إلى ترهيب من أصرّوا على تسمية جعجع بالاسم، ضمن الفاسدين والمستفيدين ورموز النظام. وهنا لا بدّ من القول، إنّ من لا يفهم طريقة تكوين مجموعات الثورة لا يمكن أن يفهم هذه السطور طبعاً. ومن يواصل التعامل مع المجموعات وفق أحكام مسبقة سببها شعار أو هتاف أو شتيمة يستحيل أن يفهم.

ففي الواقع، هذه المجموعات متنوعة جداً وإذا كان بعضها عبثياً جداً، فإنّ بعضها الآخر يفيض بالنقاء الثوري. تماماً كما أن بعضها وسطيّ، البعض يميني جداً والبعض يساريّ جداً. لكن الغالبية العظمى تتحسّس من كلهم يعني كلهم، وحتى الاتفاق مع الكتائب والنواب المستقيلين لا يلقى قبولاً كبيراً منهم. فكيف الحال مع الحزب الذي تناوب على أكثر من ست حقائب أساسية في الأعوام القليلة الماضية؟ كيف الحال مع الحزب الذي يحظى بالأولوية على جميع الأحزاب الأخرى لدى مجلس الانماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة وغيره وغيره؟
كان جعجع يعتقد أنّه سيلعب دور رأس الحربة في الثورة ليقود الرأي العام المؤيّد لها، تماماً كما فعل مع قوى 14 آذار. هنا، يفيد التذكير، أنّ جعجع حوّل نفسه بنفسه إلى رأس الحربة، قبل أن تُقفل الأمانة العامة أبوابها لعدم قدرتها على دفع الإيجار، ويتفرّق عشاقها ولا يجدون على لوائح جعجع الانتخابية مقاعداً لهم.

خيبة أمل جعجع بتعزيز الزعامة

ورث جعجع غالبية جمهور 14 آذار، وهو اعتقد أنّ الثورة مناسبة أخرى لتعزيز زعامته، لكن يبدو واضحاً أنّ الثوار (أو بعضهم) تعلّم من تجربة من سبقهم مع جعجع، فلم يرفعوا الرايات البيضاء ولم يبايعوه القيادة، ولم يؤدوا له التحية كما كان كثيرين يتخيلون. لا بل أنّ كثافة الاتهام لهم بالتنسيق مع القوات دفعتهم إلى التحسس من التنسيق مع القوات. وهنا لا بدّ من فتح نافذة إضافية للقول، إنّ الولايات المتحدة لا تعتبر جعجع عدواً طبعاً، فهو صديق، لكنه صديق عجز عن تنفيذ المهام المتوقعة منه. وعليه، كانت الإدارة (الخاسرة) تتحدث عن مقاربة جديدة تقوم على استثمارات سياسية جديدة لأن كلهم يعني كلهم “ما طلع من أمرهم شي”.

وعليه، كان جعجع يلاحظ دون شك أنّ الطبقة من المؤيدين غير الحزبيين بدأت تنفصل عن القوات وتبتعد عنها لمصلحة المجموعات الثورية، خصوصاً في الجامعات. وهنا استخدم جعجع خطابين ليحاول الحدّ من النزيف: الأول طائفيّ مذهبيّ لا يعطي أية نتيجة مع هؤلاء، لأنّ العصب المذهبي ينفرهم لا العكس، وكذلك جدار نهر الموت والفيلدات وعراضات فرقة الدبكة في الأشرفية.

أما الثاني، فهو خطاب تقليديّ ومملّ جداً عن إنجازات نواب القوات في بشري ومعارك وزرائه الوهمية في مجلس الوزراء. وبموازاة هذين الخطابين الفاشلين كانت ماكينة القوات قد بدأت الرد بعنف على بعض القيادات التي تتمسّك بشعار كلهم يعني كلهم والقوات واحدة منهم؛ مثل يعقوبيان وخلف والمجموعات الطلابية.
المشهد الطلابي معبر جداً؛ من كانوا ينتخبون التيار الوطني الحر ما زالوا ينتخبون التيار الوطني الحر، مع بعض التراجع طبعاً وأكيد. أما من كانوا ينتخبون القوات اللبنانية فينقسمون: نصف ينتخب القوات اللبنانية والنصف الثاني ينتخب الثوار. وليتوضح المشهد أكثر انتقلوا إلى المناطق؛ تحديداً الأشرفية، المتن، كسروان، بعبدا. مّن مِن المجتمع المدني سيختار مي شدياق ونائب القوات الأرثوذكسي الذي يصعب جداً تذكر أسمه، إذا خُير بين لائحة يشكّل هذين الاسمين حجارة زاويتها، ولائحة تنطلق من بولا يعقوبيان ونادين لبكي ونديم الجميل؟ كانت القوات بالنسبة لغير الحزبيين في الأشرفية أفضل الموجود؛ لكنها لم تعد كذلك اليوم.

وفي المتن، ما زال هناك بين المجموعات من يتحسس من فكرة التفاهم مع الكتائب رغم التزام سامي الكامل بكل المطالب الثورية منذ الاستقالة الشهيرة لوزرائه. ومع ذلك بات واضحاً ومحسوماً أنّ سامي يلقى قبولاً أكبر بكثير من سمير وسط هؤلاء، ويمكن تخيلهم يتفاهمون معه فيما يستحيل تخيلهم يجمعون على التفاهم مع سمير. وعليه، ماذا سيحصل في المتن بالقوات إذا بقي لها حزبييها فقط، دون تلك الطبقة السميكة من المؤيدين التي كانت تلتف حولها باعتبارها أفضل الموجود؟

القائمة المناطقية طويلة؛ كان جعجع يعتقد أنّه يحفر عبر الثورة حفرة كبيرة لشقيقه؛ لكن الواضح اليوم وما سيتوضح أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم، أنّه هو من وقع في هذه الحفرة. العونيون سيبقون عونيين؛ القوات سيبقون قوات؛ غير الحزبيين أيّدوا العونيين عام 2005، ثم القوات عام 2018، باعتبارها أفضل الموجود. أما اليوم، فأمام هؤلاء خيار منطقي وعقلاني ثالث، من لحم ودم.

غسان سعود

 

غسان سعود

كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى