مجتمع

معلمو الثانوي: قصص من القهر بحثا عن الكرامة!

ربما لم يلتفت أحد من المعنيين الى الخيارات الصعبة التي لجأ اليها المعلمون في القطاع الرسمي لسد حاجات أطفالهم، والتي قد تساهم في القضاء على التعليم الرسمي. اذ يفترض، بطبيعة الحال، ألا يلجأ المدرّس أو الاستاذ الثانوي الى أي عمل “قد يحطّ من كرامة الوظيفة”، كما يشير قانون الموظفين.

“هيبة المعلم، وكرامته، تفترض، عدم قيامه بأعمال قد تؤثر على كيانه المهني وحضوره بين طلاّبه، فكيف عليه مثلاً ومن الواقع الحاصل أن يفاوض طالب على الربح والخسارة عند عرض بضائعه للبيع، وكيف سيكون موقفه عندما يتصل به أحد زبائنه طالباً ايصال الطعام الى منزله (ديليفري)، أم كيف سيكون موقف المعلم عندما يتصل به والد تلميذه النجيب ليحاسبه على خطأ أو اهمال بعد تركيبه لألواح الطاقة الشمسية؟”، يقول أحد أساتذة الثانوي، ويلفت الى أن “ما حصل من اهمال لأجور المعلمين، جعل العشرات منهم يستغنون عن هذا الوقار، وتلك الهيبة، وأحيانا الكرامة”.

يعتذر الاستاذ عن ذكر اسم زميل له فاجأه بخياره الجديد عندما  بدأ يعمل في بيع القهوة والشاي في كشك صغير على الشارع العام، “كان خبراً سيئاً أصابني وزملائي في الصميم، لكن خياره هذا كان لا بديل عنه، لأن أي عمل آخر له يحتاج الى رأسمال كبير لا يمكنه تأمينه”.

وعندما قرر استاذ الفيزياء في ثانويتي “حسين علي ناصر” و”حسين مكتبي” الرسميتين، بشير جمال الدين (بعلبك- مقنة)، العمل في بيع الخردة، لم يستطع التفكير الاّ في عدم سقوطه أمام أطفاله الأربعة: “حاولت الصمود في بداية الأزمة، فغرقت في الديون، وعلمت أن المعاناة الأكبر هي الحاجة وعدم القدرة على سد حاجات أطفالي، فبعد 14 سنة من التعليم لم ألجأ الى أي خيار آخر، معتمدا على راتبي فقط، حتى لم أفكر في التدريس الخصوصي كي أقوم بواجبي التعليمي على أكمل وجه”، لافتاً الى أن “اهمال الدولة لنا ولطلابنا، جعلني أترك كل شيء، والبدء بعمل أستطيع برأسمال بسيط القيام به لسد الحاجات الكبيرة المطلوبة مني، فلجأت فوراً الى الخيار الأصعب على موقعي المهني والأقرب الى حقيقة ما وصلنا اليه، هو بيع الخردة”.

واللاّفت أن معلّم الفيزياء امتنع عن الذهاب الى مركز عمله “لأن الالتزام في الدوام المجاني سيمنع النجاح في عملي الجديد”، حتى أن التاجر الذي يتعامل معه طلب منه ترك دوامه متعهداً باعطائه ما يزيد، ساخراً من راتبه المتدني، مشيرا الى أن “عقوبة المدير العام كانت بحسم يومين من راتبي الشهري، وأنا أطالبهم بحسم كامل راتبي، الذي لا يكفي لتأمين حاجة واحدة من حاجات عائلتي”.

المفارقة أن ما لجأ اليه بشير أدى الى “تأمين كل حاجات عائلته، لا بل فاض عنها ما يزيد عن ما سيؤمنه له راتبه طيلة ال 35 سنة المتبقية من عمره الوظيفي”؛ ينصح بشير جميع زملائه بالتوقف عن التدريس في أسرع وقت ممكن والبدء بأي عمل آخر، مهما كان نوعه ومكانته في المجتمع، “لأن الدولة لن ترحمكم، ولن تؤمن لكم حاجاتكم ولا حتى كرامتكم، فعليكم أن تستغلوا ما تبقى من أعماركم لاطعام أطفالكم، أما طلابكم فهم قادرون على تأمين البديل عنكم”.

تجربة بشير تشبه تجارب كثيرة مستجدة من المعلمين، فيذكر أحد المعلمين لحظة “اضطراره لشراء دراجة نارية والحضور خفية الى مدرسته، والانتظار بعد ساعات الدوام كي تفرغ المدرسة من الطلاّب للخروج خلسة الى عمل آخر هو أشبه بعقاب لي على ما قمت به من أعمال تربوية”.

كما يشير أحد نظار الثانويات الى أنه “اضطر الى الاستجابة لطلبات العديد من تلاميذه المقتدرين للعمل لديهم في تركيب ألواح الطاقة الشمسية مقابل بدل رمزي، حياء من محاولة التداول معهم في الأسعار المطلوبة”، ذاكراً أن “كل هذه الأعمال حتماً سوف تنعكس سلباً على المستوى التعليمي، وربما في العام المقبل لن نجد أحد من المعلمين قادر على الحضور والالتزام بأوقات التدريس لأنهم سيقررون، ان تمكنوا، من العمل، حتى في بيع الخردة”.

داني الأمين

داني الأمين

صحافي وباحث. حائز على اجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى