سياسة

التدقيق الجنائي من رئيس الجمهورية إلى النواب: تحمّلوا مسؤولياتكم

لن يسمح عون بإجهاض التدقيق الجنائي ولن يتركه يتيمًا وسيكشف منظومة الفساد

لا يستسلم رئيس الجمهورية ميشال عون عن معركته الأساس التي رفعها منذ مجيئه إلى الحكم وهي محاربة الفساد وهو مصمّم على إجراء التدقيق الجنائي مهما بلغت الأثمان لكشف من هدر المال العام. وبعد انسحاب شركة التدقيق من لبنان بذريعة حجب المعلومات عنها استخدم الرئيس صلاحياته في مخاطبة مجلس النواب اللّبناني ليضع البرلمان أمام مسؤولياته في كشف منظومة الفساد التي أهدرت أموال اللّبنانيين والدولة اللّبنانية  ولتوفير الظروف لإنجاز هذا التدقيق. رئيس المجلس النيابي تلقف كرة الرئيس فدعا على الفور إلى جلسة عامة تُعقد يوم الجمعة لاتخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار المناسب.

لن يسمح عون بإجهاض التدقيق الجنائي ولن يتركه يتيمًا وهو يتبناه ويريد إيصاله إلى مراحله الأخيرة. ومنذ تنحي “ألفاريز أند مارسال” وحتى ساعة متقدمة من ليل الإثنين عمل فريق رئيس الجمهورية على نص الرسالة الموجهة إلى مجلس النواب يحضّه فيها على اتخاذ الخطوات التشريعية المؤدية إلى ضمان الظروف التي تسمح بـالتدقيق الجنائي مستندًا إلى الفقرة 10 من المادة 53 من الدستور التي أعطته صلاحية مخاطبة مجلس النواب. وبعد وضع حبر الكلمات على خطاب الرئيس سلِّم إلى الأمانة العامة للمجلس في أوّل يوم عمل تلا عطلة “عيد الاستقلال”.

في ظلّ الضائقة الاقتصادية والمعيشية والنقدية المتفاقمة، والانسداد السياسي، والتحولات الإقليمية السريعة التي تقود المنطقة إلى تطبيع “التطبيع” وفيما يبدو أنّ أي فرصة لتأليف حكومة غير مرئية حتى الآن، يريد رئيس الجمهورية أن ينطلق من مسار جديد للتحوّلات اللّبنانية مستخدمًا التدقيق الجنائي الذي يعتبره مدخلًا للإصلاح المالي والاقتصادي ومحاربة الفساد ومحاسبة المرتكبين. والتدقيق الجنائي بنظر رئيس الجمهورية يجب أن يشمل كلّ مؤسسات الدولة وبدءًا من مصرف لبنان وصولًا إلى كل الوزارات والإدارات الرسمية التي أهدرت المليارات في مشاريع لم تُعمّر ولم تسهم في تحسين حياة اللّبنانيين.

وفي رسالته التي وجهها إلى مجلس النواب بواسطة رئيس المجلس الرئيس نبيه بري، دعا رئيس الجمهورية النواب “إلى التعاون مع السلطة الإجرائية من أجل تمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان، وانسحاب هذا التدقيق بمعاييره الدولية كافة، إلى سائر مرافق الدولة العامة تحقيقًا للإصلاح المطلوب وبرامج المساعدات التي يحتاج إليها لبنان في وضعه الراهن والخانق، وكي لا يصبح لبنان، لا سمح اللّه، في عداد الدول المارقة أو الفاشلة في نظر المجتمع الدّولي مع خطورة التداعيات الناجمة عن سقوط الدولة اللّبنانية في محظور عدم التمكن من المكاشفة والمساءلة والمحاسبة، بعد تحديد مكامن الهدر والفساد الماليين اللّذين قضيا على الأموال الخاصة والأموال العامة معًا”.

وطالب الرئيس عون مناقشة هذه الرسالة في مجلس النواب وفقًا للأصول واتخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار في شأنها، لافتًا إلى ضرورة التعاون مع السلطة الإجرائية “التي لا يحوّل تصريف الأعمال دون اتخاذها القرارات الملائمة عند الضرورة العاجلة”.

من استمع إلى كلمة رئيس الجمهورية التي وجهها للّبنانيين عشية عيد الاستقلال أدرك جيّدًا أنّ المواجهة مع معرقلي التدقيق الجنائي سيرتفع منسوبها في الفترة المقبلة. وعون أدلى برسالته التحذيرية لمن يهمهم الأمر “بعدم التراجع عن معركتي ضد الفساد”، وأصرّ على أنّه سيتّخذ “ما يلزم من إجراءات لإعادة إطلاق المسار المالي للتدقيق الجنائي”، بعد إعلان شركة Alvarez & Marsal انسحابها.

وهو إذ أشار بالأصبع على أن “وطنُنا أسير منظومةِ فسادٍ مغطّى بالدروعِ المُـقَـوننة واقتصادٍ ريعيّ وقضاءٍ مُكَبـّلٍ وسياساتٍ كيديةٍ معرقِـلة وإملاءاتٍ وتجاذُباتٍ خارجية”، أكّد العمل على إقرارِ مشاريعِ واقتراحاتِ قوانينِ الإصلاحِ والمحاسبة والانتظام المالي واستعادة الأموالِ المنهوبة والمحكمةُ الخاصة بالجرائمِ الماليّة”. والرئيس الذي يُدرك جيّدًا أركان هذه المنظومة بالأسماء والمواقع لكنّه لا يسمّي ويترك للتدقيق والجهات القضائية المسؤولة تسميتهم ومحاسبتهم، رفع من حماوة المواجهة مع “منظومة الرعب والفساد والشبكة العنكبوتية التي تريد تقويض كلّ فرص الإصلاح” بحسب ما تقول مصادر المحيطين بالرئيس.

وتلفت المصادر إلى أنّ أروقة القصر الجمهوري تحوّلت إلى “خلية نحل” منذ أيام لدراسة كافة حيث أمضى رئيس الجمهورية يومه أمس بحثًا عن الوسائل التي يمكن اللّجوء إليها من أجل إحياء مشروع التدقيق الجنائي كخطوة أولى تؤدي إلى إمكان إحياء الحوار مع شركة “الفاريز ومارسال” للعودة عن قرار انسحابها أو البحث عن شركة أخرى تقوم بالمهمة عينها إلى أن كان الخيار الأوّل بوضع المجلس النيابي وأعضائه الذين يمثلون الشعب أمام مسؤولياتهم انطلاقًا من الوكالة المعطاة لهم. وهو سيلجأ إلى خيارات أخرى في حال لم يصدر عن المجلس النيابي ما يؤدي إلى إنجاز التدقيق الجنائي حتى خواتيمه.

وعرض الرئيس عون في رسالته إلى مجلس النواب، المراحل التي قطعها إقرار التدقيق المحاسبي الجنائي منذ 24 آذار الماضي والقرارات التي اتخذها مجلس الوزراء في هذا الصدد، وصولًا إلى التعاقد مع شركة “الفاريز ومارسال” للقيام بمهمة التدقيق الجنائي تنفيذًا لقرار مجلس الوزراء. وأبرز العراقيل التي برزت والتي حالت دون مباشرة الشركة لمهمتها لا سيّما موضوع السريّة المصرفيّة، والتمنّع من تسليم المستندات والمعلومات المطلوبة بالرغم من الحماية القانونية التي توافرت لهذا التسليم وصولًا إلى حدّ طلب الشركة إنهاء العقد في 20/11/2020. واعتبر الرئيس عون أنّ ما حدث “يشكّل انتكاسة خطيرة لمنطق الدولة ومصالح الشعب اللّبناني الذي يعاني من أزمات نقدية واقتصادية واجتماعية ومعيشية خانقة وموروثة ومتناسلة ومتفاقمة ومنها على الأخص جائحة “كورونا” وانفجار مرفأ بيروت.

يُدرك رئيس الجمهورية النقمة الشعبية على آداء السلطة السياسية وهو يشكو من تحميله مسؤولية جزء كبير من الانهيار الحاصل في البلد، “لكنّه واثق من أن ثمة منظومة سياسية وإعلامية وأمنية ومصرفية متكافلة ومتضامنة تعمل على تضليل الناس وتدفع باتجاه عرقلة أيّ تدقيق مالي يمكن أن يقود إلى كشف المتورّطين في هدر المال العام. وعون سيقف بوجه كلّ هؤلاء وهو يريد أن يؤرخ هذا التغيير في آخر سنتين من عهده”، بحسب مصادر مطلعة.

هل سيُلاقي المجلس النيابي رئيس الجمهورية في إزالة العقبات أمام التدقيق الجنائي؟  في جولة قراءة لمواقف الكتل النيابية من حركة أمل والقوات والتيار الوطني الحر وحزب اللّه فإن التدقيق مطلبًا واحدًا للجميع لكن المطلوب مطابقة مواصفات الأقوال مع تطبيق الأفعال. وفي أدراج المجلس النيابي مشاريع قوانين للمحاسبة والتدقيق وبعد تقديم القوّات اللّبنانية  لمشروع قانون يجمّد العمل بأحكام قانون السريّة المصرفيّة لتسهيل مهمة التدقيق الجنائي. تقدّم النائب علي حسن خليل باسم كتلة التحرير والتنمية باقتراح قانون إخضاع الإدارات والمؤسسات العامة للتدقيق الخارجي الجنائي. وكذلك فعل نوّاب التيار الوطني الحر حيث أكّد النائب سيمون أبي رميا “نحن بوارد تقديم اقتراح قانون برعاية رئيس الجمهورية لنزيل العقبات القانونية من أمام التدقيق الجنائي والتي يتذرّع بها البعض وهو في إطار تعديل القوانين”. ومن المفيد التذكير أن المادة 139 من النظام الداخلي لمجلس النوّاب تتيح لهيئته العامة أن تقرّر إجراء تحقيق برلماني في كافة المجالات دون استثناء.

 

رانيا برو

 

 

 

رانيا برو

صحافية وكاتبة لبنانية. عملت في مؤسسات اعلامية لبنانية وعربية مكتوبة ومرئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى