يوم في كاراباخ: دوي صفارات الإنذار والـ drone نجم حرب 2020
مهما إختلفت أسباب الحروب ووسائلها وخواتيمها إلا ان لكل حرب نجمها، ونجم حرب الأرمن والأذرين في إقليم كاراباخ أو جمهورية “أرتساخ” في نسختها للعام 2020 هو الطائرات المسيّرة الـDrone التي تستعملها أذربيجان وحصلت عليها من تركيا وإسرائيل، وهذه الأخيرة تسلحها بنسبة تفوق الـ 70%.
الى قلب الحدث توجّهنا. فبعدما وصلنا من بيروت الى يريفان الثلاثاء ضمن وفد إعلامي لبناني يضم وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة وإلكترونية بدعوة من حزب “الرمغافار”، إنتقلنا الاربعاء الى كوريس آخر مدينة حدودية على بعد نحو 250 كلم ولمدة 5 ساعات قيادة من العاصمة حيث بتنا ليلتنا في فندق يعجّ بالنازحين من عجزة ونساء وأطفال.
صخب الحرب في صمت الشوارع الفارغة
كلما توجهت من العاصمة الأرمينية بإتجاه جمهورية أرتساخ كلما تلمّست ميدانياً أكثر فأكثر بصمات القتال. فالطريق تخلو تدريجياً من السيارات المدنية وتزداد في القرى أعداد النازحين.
من كوريس إنطلقنا الى ستيباناكيرد عاصمة أرتساخ على بعد 120 كلم خلال ساعتين من القيادة.
فبعد ساعة من السير في طبيعة خلابة ناجية من همجية البشر والحجر وصلنا الى النقطة الحدودية، حيث طلب منا إغلاق الهواتف كلياً منعاً من رصد الـDrone لنا.
سرنا في المعبر الذي يربط أرمينيا بأرتساخ وإخترقنا قرى تشهد بيوتها على التهجير المتبادل في حرب تسعينات القرن الماضي حيث إنتقل الأذريون الى أذربيجان التي غادرها الأرمن الى كاراباخ وما بعد بعد كاراباخ. مع الاشارة الى أن حلّ ملف المهجرين أساسي في أي عملية سلام قد تطرح يوماً.
من الحدود الى أرتساخ لا شيء يعلو فوق علمها وعلم “الأم” أرمينيا، لا صور رؤساء ولا وزراء ولا قادة مدنيين أو عسكريين أو زعماء أجانب كما عندنا. صخب الحرب ظاهر جلياً في صمت الشوارع الفارغة إلا من أعداد قليلة جداً من العسكر والإعلاميين المغامرين ومن العاملين في المؤسسات الدولية الانسانية. صمت متقطّع بصفارات الإنذار وأصوات القذائف التي لم توفرّ قلب العاصمة وبـ”أزيز” الطائرات المسيّرة الـDrone – “إبنة عم” الـMK أو “إم كامل” التي خبرها اللبنانيون جيداً – والتي تستخدم ليس فقط للرصد والتجسس بل لقصف محدّد ومحدود ولزرع القلق والرّعب.
الـDrone أصرّت على إستقبالنا
فور وصولنا، وبعد زيارتنا المركز الاعلامي، قرّرنا التوجّه الى بلدة شوشي التي تعرّضت للقصف العنيف صباحاً حيث إستهدفت كنيسة المسيح المخلص فيها. هذه الكنيسة بدأ العمل فيها عام 1868 وإفتتحت عام 1887 وتحمل في هندستها جمالية معمارية وقيمة أثارية الى جانب بعدها الروحي ورمزيتها الدينية. كما أن هذه البلدة شبيهة ببلدات لبنانية عدة حيث الجامع يجاور الكنيسة وقد تمّ ترميمه من قبل السلطات في أرتساخ مؤخراً رغم نزوح المسلمين عنها.
إستقلّينا الباص وإنطلقنا بعد أن “لقّمنا” عيوننا للمعاينة الميدانية، لكن الـDrone أصرّت على إستقبالنا في نصف الطريق. فوراً ترجّلنا من الباص وتوزّعنا بين الحقول وعلى جوانب الطريق. ما إن إبتعدت حتى إلتقطنا أنفاسنا مسرعين لإستكمال مسيرتنا، إلا أنها كرّرت الكرّة وراحت تلوّح لنا بخطرها خصوصاً أن لا حصانة للصحافيين عندها. ثم بدأ القصف الذي إستهدف العاصمة وكذلك كنيسة شوشي مجدداً والتي كانت مقصدنا حيث أصيب ثلاثة صحافيين.
فلشوشي أهمية استراتيجية بسبب موقعها على رأس جبل ومن يسيطر عليه يتحكم بالعاصمة. وكان الأرمن سيطروا عليها في ٩ أيار ١٩٩٤ بعد معارك طاحنة لم يغفرها لهم الأذريين.
حين أصبحت الرحلة أبعد من مغامرة
عدنا إلى المركز الاعلامي حين أصبحت الرحلة أبعد من مغامرة حيث إلتقينا مستشار رئيس جمهورية أرستاخ السيد ديفيد بابايان الذي أكد أن المواجهة ليست فقط مع أذربيجان بل مع تركيا ومجموعات متشددة من الشرق الاوسط.
عسكرياً، أوضح أن أسلوب المعركة تغيّر، مضيفاً: “في البدء كان هدفهم المباغتة وإسقاط أرتساخ خلال ساعات ولكنهم فشلوا. الآن تحولت المعركة الى مواجهات عنيفة على الجبهة حيث يحاولون خرقها في أي نقطة وكسر دفاعاتنا. بالتزامن يقصفون المدنيين بالصواريخ. كما يستخدمون الـDrone لهذه الغاية وهي لا تحقق فوزاً لكنها تحصد ضحايا”.
سياسياً، إعتبر بابايان “أننا أمام صراع جيوبوليتيكي طويل حيث التركي يغذّي الانفصاليين في إيران وروسيا ولن يرضى الطرفان بذلك، لذا من المتوقع أن تتزايد الضغوط الدولية لدفع أذربيجان لوقف الحرب. ( وقد جرى الاتفاق في وقت لاحق برعاية روسيا على وقف لإطلاق النار بعد محادثات دامت 10ساعة يبدأ منتصف ليل السبت، الوقت وحده الضمانة لتأكيد نجاحه) . يجب أن يتحرك حلف الـ NATO جراء تلازم التعاون بين الأتراك والارهابيين خصوصاً ان إسطنبول عضو فيه. لدينا صور وتسجيلات وأدلة عن مشاركة هولاء الارهابيين بالقتال إلى جاب الأذر. يوجد ٣٥٠٠ إلى ٤٠٠٠ مقاتل ويدفعون ٤٠٠٠ $ للعنصر. أشدد ان لا علاقة لهم بالاسلام وهو براء منهم”.
أضاف: “علاقتنا مع روسيا وأميركا وإيران جيدة وإستراتيجيتنا جمع دعم روسيا وأميركا في آن ونحن ننجح بذلك جراء الديسبورا الأرمنية. نحاول تحييد الجبهة من ناحية الحدود مع تركيا عبر الحلفاء كي لا نوزع قوتنا على جبهتين”.
إنسانياً، تحدث عن الواقع الصعب الذي يعيشه السكان في أرتساخ ويبلغ عددهم ١٥٥ الف مواطن منهم ٦٠ الفاً في العاصمة. فرغم لجوء عدد منهم الى أرمينيا إلا أن الباقين معرضون للموت. ورداً على سؤال عن أن عدد المدنيين الذين قتلوا حتى الآن قليل نسبياً مقارنة بالحروب الماضية، أجاب: “سابقاً لم نكن مستعدين للحرب أما اليوم فقد سقط نحو 60 مدنياً الى جانب 300 مقاتل، لأننا أنشاءنا الملاجئ ونعتمد على نظام صفّارات الإنذار ما يجعل المدنيين أكثر حيطة”.
وختم مستشار رئيس أرتساخ: “نحن سنقاتل حتى آخر نقط دم وفاء لتاريخنا وشعبنا وارضنا. لا أريد أن أكون لاجئأ حتى في يريفان أريد أن أبقى في ارضي”.
توالت ساعات نهارنا الطويل على وقع صفّارات الإنذار وتحليق الـ Drone وأصوات ترددات القصف. ومع ساعات الليل، إنضمت اليها ظلمة كاملة وخيّم السواد على ستيباناكيرد. حتى القمر إحتجب متمترساً خلف الغيم لدواعٍ أمنية.
طوينا زيارتنا الى كاراباخ وإنطلقنا في الصباح للعودة الى أرمينيا، لكننا أصرينا على التوجه مجدداً إلى شوشي وهي على طريقنا، وفيما كنا نصور الاضرار التي أصابة كنيستها حتى بدأ القصف على البلدة، فأسرعنا إلى خارج باحة الكنيسة بحثا عن أقرب مبنى حيث دخلنا إلى طابق سفلي قديم وإنتظرنا نحو نصف ساعة حتى سمحت لنا القوى الأمنية بالمغادرة.
إنطلقنا باتجاه الحدود التي تبعد ٣٠ كلم عبر الطريق المحفوفة بالخطر وسط صمت لرصد أي Drone قد تلاقنا، فرحنا نسابقها ونسابق صفارات الأنذار في القرى الى أن إنتهت المغمرة لدى وصولنا الى الحدود الارمنية حيث أي خرق بعدها خرق لدولة سيدة ولخطوط دولية.
جورج العاقوري