هو حتما ليس بشخصية خُرافية أو كرتونية، وليس بالتأكيد بطل كتاب المؤلف البريطاني “روديارد كبلينغ”، لكن معظم المهتمين بعلم الأحياء في لبنان يعرفونه وهو الحاضر أبدا في يومياتنا البيئية، حاضنا لفراشات ومنقذا لطيور وصديقا لزواحف، وعاشقا لسلاحف البحر والبر، دائم التحليق في فضاء إنسانيته، مداه الأرحب الطبيعة حتى لتكاد تكون بيته الكبير، وهو إلى صغر سنّه سجّل علامة فارقة في مجال الدفاع عن البيئة، وغدا مرجعًا نلوذ إليه في المهمات لننقذ طائرًا ونداوي حيوانًا بريًا ونحمي ما استطعنا من كائنات تعرضت للأذى عمدًا أو عرضًا.
هو الشاب اللبناني رامي خشاب، الذي عرف كيف يردم الهوة بين الموروث الشعبي والعلم من خلال ممارساته وعمله، وكأنه يدعو دوماً إلى “مصالحة” مع البيئة بقوانيها ونظمها، والطبيعة بجمالياتها وسحرها، وقد أفلح إلى درجة أنّه كرس حضورًا متمايزًا في مجال الحفاظ على الحياة البرية، متكاملًا مع من شاركوه الشغف إيّاه، فكانت قصة مثيرة نروي بعضًا من فصولها، فيما ننتظر أن يحلّق أكثر في هذا العالم الذي اختاره ميدان علم ودراسة.
على غرار الراحل الاسترالي “ستيف إيروين” يعيش رامي خشاب حياة مليئة بالمغامرات، ويستوقفك بشغفه المجبول عشقا لسائر كائنات الطبيعة، طيورا، كائنات بحرية، حيوانات برية، زواحف وحشرات، وتلفتك قدرته على محاكاتها جميعا والدنو من عالمها وفهم الكثير من أسرارها، حتى ليتساءل المرء كيف لهذا الشاب الممتلىء حيوية أن يلج هذا العالم الحافل بالأسرار ولا يهاب شيئا، بما في ذلك الأفاعي والحشرات السامة؟
البدايات
رامي الذي ولد في أوكرانيا من أم اوكرانية وأب لبناني، ايكتشف ولعه بالحيوانات منذ نعومة أظافره. ويقول في لقاء مع “أحوال” إن “أهلي لاحظوا محبتي للحيوانات، وكنت كبقية الأطفال أحب الذهاب لزيارة حديقة الحيوانات والسيرك في أوكرانيا”، مستدركًا أنه في تلك الفترة “لم أكن أعلم حجم معاناة هذه الحيوانات في الأسر”، أي لجهة ما تتعرض له من ضغوط بعيدا من بيئتها الطبيعية.
ويضيف: “كان أهلي غالباً ما يبتاعون لي قصصاً عن الحيوانات، ولذا كونت خلال السنوات الخمس الأولى من عمري – قبل عودتنا إلى لبنان وتحديدًا إلى بلدتي المنصوري الجنوبية – صورة لا تمت بصلة عما شاهدته في بلدي، فبعد عودتي كنت أطارد الضفادع في الحقول، ويلفت انتباهي كل ما يزحف على الأرض، ولاشعوريا كنت أحاول الإمساك بها واللّعب معها، لكن في لبنان اختلفت الصورة فكل الحيوانات (خطرة) في نظر الناس والأفكار حولها مختلفة، وبدأت منذ الصغر متابعة الأفلام الوثائقية عن الحيوانات، وأقضي أوقاتاً طويلة في البساتين المجاورة، كانت هذه الأوقات بمثابة رحلات استكشافية بالنسبة لي وكنت أراها بشكل مختلف جداً عن ما يراه الناس، واستفدت من عالم الإنترنت الذي فتح أمامي آفاقاً جديدة للبحث والتقصي قبل أن أبدأ بالتواصل مع الخارج لمراكمة معلومات أكبر وأوفى”.
علامة استفهام كبيرة
اتسمت رحلة خشاب العلمية بالفضول الفطري، فأشار إلى أنه بدأ بمساعدة الحيوانات “عندما كنت فتى صغيراً خلال رحلات البحث”، لافتا إلى “أنني كنت أُدخل الحيوانات خلسة إلى البيت، لتكتشف أمي بعد أيام أنني خبأت لها افعى أو عقربا أو أي من الحيوانات التي كنت ألتقطها”، منوها إلى أنه “مع تكرار الأمر رضخت أمي لهذا الواقع وبدأت بمساعدتي لاحقاً، إلى أن شاع بين أهالي البلدة محبتي للحيوانات”.
ويتحدث عن تلك المرحلة، قائلا: “في أحد الأيام كنت في دكان أبي فجلب لي أحد أبناء البلدة أفعى صفراء اللّون محتجزة في قارورة، وهنا كانت النقلة النوعية مع الأفاعي واستجبت حينها لصوتٍ في داخلي وفتحت القارورة وأفسحت المجال للأفعى المجال للخروج وأحسست بأنها غير مؤذية، ورحت أحركها بيدي، وهنا تكونت لدي علامة استفهام كبيرة حول ما يتم تداوله في البلدة عن الافاعي، وقررت الاحتفاظ بها، ولم أكن أعلم حينها أنه لا يحق لي احتجازها، وبدأت بمراقبتها وشكلت لي بداية المعرفة عن قرب”.
ويضيف: “بعد هذه الأفعى تطوّرت الأمور بحيث أصبح الأهالي يرسلون لي معظم الحيوانات التي يلتقطونها أو يجدونها بحاجة لمساعدة، وكنت أسأل عن طريقة رعاية الحيوانات والاهتمام بها وأحاول أن أساعد أياً منها قدر الإمكان”.
بعد أن إنتقل خشاب إلى بيروت بدأت مرحلة جديدة هي المرحلة الجامعية، يقول: “التقيت بأصدقاء جدد لديهم نفس اهتماماتي وبدأنا العمل سويا على إنقاذ الحيوانات ومساعدتها، والعمل على ورشات عمل وتوعية للأطفال ولا سيما في المدارس والجامعات، وأنشأت بهدف التوعية قناة خاصة على (يوتيوب) و(فيسبوك) و(إنستاغرام)”.
جمعية الحياة البرية اللبنانية
ويردف خشاب: “منذ 4 سنوات تعرفت على الدكتور غابي هيلان ومجموعة مهتمة بالحيوانات، ووحدنا جهودنا في جمعية الحياة البرية اللبنانية Lebanese Wildlife، وأصبح بإمكاننا مجتمعين مساعدة وتأهيل ومعالجة وإنقاذ أعداد أكبر من الحيوانات”.
ويرى أن “ما يحدث في لبنان من ممارسات بحق الحيوانات أمر مؤسف وسيء حتى أن بعض وسائل الاعلام تعظِّم القتل والتجاوزات بحق الحيوانات، وتنقل أخبارا كاذبة وتروج لمفاهيم خاطئة”، وأشار إلى أن “هذا الأمر يدفعني للعمل أكثر على التوعية”، لافتاً إلى أن “لبنان بتنوعه الحيوي هو بلد بحاجة للحماية وهذا الأمر جعلني أشعر بأنني أؤدي رسالة لا يمكن التخلي عنها، ولذا توفرت لي فرص كبيرة للهجرة رفضتها من موقع أنني أؤدي رسالة”.
ويشير خشاب إلى أنه عمل على “مختلف الحيوانات البرية في لبنان وليس الطيور والزواحف فحسب”، وخلص إلى أن “الحيوانات مظلومة وتحاك حولها الكثير من الشائعات وهي بحاجة لإنصافها وحمايتها”.
يبقى أن نؤكد أن لبناننا الغنيُّ بالتنوع الحيوي، غنيٌّ أيضا بحب أبنائه الشغوفين مثل خشاب وغيره الذين يثبتون بعملهم ان “إيروين” قد يعود في مكان آخر وربما بنسخة لبنانية، وهذا ما نستشفه من مسيرة خشاب العصامي الزاهد إلا في حب الطبيعة.
فاديا جمعة