“المجهول” يذهب بهوية رودولف هلال
“المجهول” يأتي كالحًا أسود، يُعنّف ويتّهم، يرمي صنانيره في وسط اللقاء علّه يصطاد طريدة من أجل اللطم فيها.
هذا المجهول المقنّع لا اسم له ولا وجه ولا صوت، مجرّد من كل صفة نقيّة، مهمته أن ينغّص السردية الجميلة. يدخل شخيره وسط هوبرة موسيقية مترافقة مع دوائر حمراء، ينطق بكلام غير مفهوم المعنى ولا المقصد؛ يريد أن يحشر الضيف في الزاوية بغية أن نقول عنه “شاطر” وعالم، وهو بصوته الشاخر المحجب بالتستر كأنه يتلطّى بالجبن وليس المواجهة.
برنامج رودولف هلال “المجهول” الذي يُعرض عبر محطة LBCI وصوت بيروت انترناشونال، لم يأتِ بجديد في السياق وفي الحوار وفي الضيوف؛ فهلال الذي بات متمرساً في الحوارات الفنية والاجتماعية، وبات أسلوبه معروفاً كيف يقلب الضيف وينبش في تاريخه وشخصيته، أقفل “المواجهة” ليطل باسم جديد لا يحمل من الجديد شيء سوى هذا المجهول الذي ركنه في الزاوية المعتمة، وبات يطلّ وكأن في فمه المتلعثم الأجش حقيقة ناصعة ستعرّي الضيف وتهزمه وتفضحه، وسيكون عبرة يمسح بها وجه السماء والارض.
هلال الذي يعرف كيف يماحك مع الضيف ويستطرد معه حتى يأخذ منه مبتغاه، يدرس ملفّه قبل الجلوس على كرسي الشاشة، ويستطيع أن يقتلع من ضيوفه الخبر اليقين سواء بضحكته التي فيها من اللؤم طوراً ومن المعرفة ومن التقدير أطواراً، ومن بث الروح الإيجابية أحياناً كل ذلك من أجل أن يفوز بحوار جديد.
لا يحتاج هلال إلى شكل جديد أو إسم جديد حتى يكون جذاباً، فهو قد بنى مملكته الإعلامية على مدى سنوات واستطاع أن ينجح ويكسب الرهان ويكون في خانة الحاضرين المميزين، فأتاه هذا المجهول ليخفت من بريقه ويسرق منه لطافته المسنّنة وسياقه المشفّر بالأدب. هذا المجهول الذي أخذ منه الهوية بالكامل وبات رودولف واقعاً تحت تسميته ويعمل في ظله ويحاور من خلال مجلسه، في حين هذا المجهول لم يجلب له سوى سوء السمعة وفظاظة الحضور وغموض الهدف وقلة الأدب.
لو يقفل هلال الستارة على المجهول المنفّر ويسترسل في حواره كما نعهده، لكان ساغ منبره بذاك الذكاء الذي لا شك فيه؛ فالمجهول هنا يأتي حتى يعرّي الأخرين ويطلب منا كمشاهدين أن نتفرّج على العورات علّنا نلعن أو نبلع ريقنا أو نهبّ عن مقعدنا أو نغور في أماكننا. لكن الذي يحدث مع كل هذا وخلاله، أننا نلعن هذا المجهول كما لعنه جميع الضيوف بدءاً من نوال الزغبي التي افتتح معها رودولف البرنامج وكان خياره في محله، لأن نوال قادرة أن تزرع الصحراء نخيلاً بحضورها، إلى الممثل المثقف يورغو شلهوب وصولاً إلى الاعلامية ماتيلدا فرج الله ومروراً بكل الضيوف الذين استضافهم البرنامج.
لا ينقص هلال الجرأة أو اللسان الحذق حتى يحاور بمرونة أو بشراسة مبطنة بالابتسام، فأتاه هذا المجهول حتى يأخذ عنه “شقلة”، لكن “بدل أن يكحلها عماها”، فكان مستفزاً وغير موفقًا لا جملة ولا تفصيلًا؛ فعندما يكون الضيف مسترسلا في الإجابة، يتدخل المجهول دون إنذار مسبق ويقطع الحوار، يحترمه الضيف ويرحّب به ويفتح له قلبه، لكن ما إن يرشقه المجهول بمائه حتى يستطيل وجهه ويستنكر وتضيع سكة الحوار وندخل في طور الاشمئزاز والنعوت السائبة.
هذا الوجه المقنّع وقف في درب هلال قبل أن يقف في درب الضيوف، وكان عائقاً للبرنامج وأخذ من سلاسته، وبدل أن يكون غلالاً على الضيف حتى يفصح أو يكشف عن حقيقة ما، كان غلالاً للمقدم، لأن الضيف عندما يرتاح في جلسته ويطمئن ويثق، ينكش لوحده درب القلب ويبوح بالمستور. فهذه المقصلة التي اسمها المجهول منفرة وبائخة، وهذا باعتراف كل من جالسهم رودولف.
إضافة إلى أن رودولف كان بغنى عن هذه الفكرة، خصوصاً مع اعلان المقدمة المصرية بسمة وهبي عن مقاضاة المحطة والمحاور لأنهم سرقوا فكرتها لبرنامجها “شيخ العمارة” الذي قدمته سابقاً على قناة “القاهرة والناس”.
أخيراً نجاح أي برنامج لا يكون من خلال الاستفزاز والنقر على الوتر المخفي، بل بقدر ما يكون الحوار إنساني ويرصد صدق المشاعر والمواقف.
كمال طنوس