أكثر من صرخة أطلقها على مدى ثلاثة أشهر ناشطون ومواطنون في قضاء عاليه ومناطق عدّة من لبنان، ناشدوا فيها حماية التنوع البيولوجي على امتداد نهر بيصور، بدءاً من بخشتيه نزولاً حتى الغابون ومجدليا، مروراً برمحالا وبوزريدة وصولاً إلى جسر القاضي، أي في هذا المدى الحيوي للبيئة النهرية وما تتسم به من جمال أيضاً، وسط أشجار الدلب المعمرة المتعانقة من على ضفتيه، وغيرها الكثير من أشجار ونباتات تشكل جزءاً مهما من المنظومة البيئية لهذا النهر الذي يعتبر أيضا ملاذ العائلات والمواطنين الباحثين عن فسحة للتنزه صيفاً.
كان هذا النهر قديماً مصدراً للمياه العذبة قبل أن يتلوّث بمخلفات الصرف الصحي والصناعي، شأنه شأن سائر الأنهر والمجاري المائية في لبنان، لكنّه يواجه اليوم تعديات لا تخطر في بال ولا يقبلها عقل ولا يبررها منطق، وقد ظهرت جلية مع نفوق كميات كبيرة من الأسماك، بطرق ووسائل عدة، منها استخدام الكهرباء (كهربة المياه)، تفجير الديناميت، استخدام مادة الكلور ومواد زراعية سامة، فضلا عن نبات الحوز المخدر.
نهر السنونو
وسط كل ذلك توالت صرخات الناشطين، وبعضها ضاع في وادي الإهمال، ومنذ شهر تموز (يوليو) حتى أيلول (سبتمبر) الجاري والجرائم مستمرة، إذ رصدت بين مجدليا ورمحالا أيضا الإنتهاكات ذاتها وفي نفس المكان قبل نحو عشرة أيام، وقد اكتشف الناشطون التعدي الأخير وقاموا برصد وتوثيق كميات إضافية من الأسماك النافقة.
والمشكلة أنّ حال التسيب أفضى إلى معاودة التعدي، ولا سلطات محلية معنية ومولجة المتابعة والملاحقة. وفيما وزارات ومؤسسات الدولة المعنية “غير معنية”، وحدها صرخات الناشطين علت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن دون الوصول إلى استنتاجات واضحة ومحددة، ذلك أن التحقيقات اقتصرت على الشكليات فحسب، أي لا دراسة للأسماك النافقة ولا للمياه بشكل وافٍ وشامل، علماً أنّ الجريمة موصوفة من حيث الضرر على البيئة النهرية وعلى المواطنين أيضا ممن يرتادون النهر.
والجريمة المتمثلة بنفوق كميات كبيرة من الأسماك، لا تزال موضع تساؤل وسط تأويلات عدة، ومسرحها نهر بيصور الذي يُعرف أيضاً في بعض المناطق بـ “نهر السنونو”، وهذه التسمية تشير إلى أنّه كان قطعة من الجنة في بيئة خيالية.
تعديّات بالجملة
ويحفل النهر المذكور بالتعديات، من بخشتيه وعاليه أولا، إذ تصب المعامل مخلّفاتها الصناعية في النهر مباشرة دون أي معالجة، فضلاً عن الصرف الصحي. وفي جولة ميدانية مؤخراً على ضفتي النهر لم تظهر أي آثار لأسماك نافقة، ويبدو أنّ النهر جرفها، لكن في الغابون مثلا، تم توثيق وجود بقايا من عبوات مبيدات وأدوية زراعية وقد حصلت حالات نفوق للأسماك من قبل، كما وتم الإبلاغ منذ حوالي سنتين عن جفاف في النهر وتدنٍّ في مستواه خصوصاً في بيصور ومجدليا، وتم اكتشاف أشخاص يضخّون مياه النهر لري مزروعاتهم، ولم يتم التعامل مع الأمر لأسباب غير منفصلة عن حماية منتهكي حرمة النهر.
في بيصور، أفاد ناشطون أنّ مياهاً كلسية تصب في النهر ما أدى إلى تعكّر مياهه، كما وثق ناشطون استعمال الكلور والكهرباء والديناميت في برك معينة من النهر بهدف الحصول على الأسماك، وفي رمحالا وفقاً لـ “اتحاد بلديات الغرب الأعلى” يستعمل نبات الحوز لتخدير الأسماك، وقد أكد شهود عيان وجود أفاع وزواحف نافقة بالإضافة إلى الأسماك، إلا أنّ تكرار هذه الظاهرة، يحتّم ضرورة للمتابعة والتحقيق من قبل الجهات المعنية.
وفي هذا المجال، غرّدت الناشطة في مجال الرفق بالحيوان غنى نحفاوي على موقع التواصل الإجتماعي “تويتر”، قائلة: “مجزرة شنيعة بـ 4-9-2020 بنهر مجدليا مروراً برمحالا وصولاً لجسر القاضي (عاليه). وحوش ع هيئة بشر أحضروا موتور كهرباء ومدوا لقلب المي شريطين مزلّطين، ودوّروا الموتور 10 دقايق كانت كفيلة بقتل السمك الكبير (بالغميق)، والسمك الوسط والصغير (٥ و٦ سم)، برسم مين؟! ما عدت اعرف #الله_بيعرف“.”
اتحاد بلديات الغرب
وفي متابعة للجريمة أو الجرائم المستمرة، تواصل “أحوال” مع رئيس اتحاد بلديات الغرب الأعلى السابق ورئيس بلدية رمحالا المحامي ميشال سعد، فأشار إلى أنّ “قضية الأسماك وصلت للإتحاد وإلى بلدية رمحالا، وقمت بالإتصال بقائمقامية، التي تواصلت مع طبابة قضاء عاليه التي أرسلت فريقاً للكشف ميدانيا على المخالفات”، وعن تفسيره لنفوق الأسماك، قال سعد إنّ “هناك إحدى النظريات تقول إنّ عمالاً على النهر قاموا بوضع مادة (الحوز) وهي نوع من الأشجار، تقوم بتخدير الأسماك، وبالتالي يقومون بالتقاطها بسهولة”.
وأشار مصدر رفض ذكر اسمه أنّ “الحوز أو فعل التحويز هو مرادف لاستخدام مادة اللانيت السامة، الممنوع استخدامها عالمياً وفي لبنان، وقد أدت لمجازر كبيرة بحق الحيوانات الشاردة، وأنّ هذا الأمر قد يكون سبباً لنفوق هذا العدد الكبير من الأسماك على طول النهر”، لافتاً إلى “وجود مواد زراعية مسمّمة تؤدي إلى نفوق الكائنات النهرية بهذا الشكل، حتى وإن استخدمت بكميات ضئيلة للغاية”.
طبابة قضاء عاليه
تواصل “أحوال” مع رئيسة طبابة قضاء عاليه الدكتورة مها الريس التي أكدت أنّ “فريقاً قد توجه برئاسة المراقب شريف شيا وقام بأخذ عينات من الأسماك والمياه خلال شهر تموز (يوليو)، وسلّمها للمسؤول في وزارة الزراعة في قضاء عاليه الدكتور البيطري شادي رضوان، كون هذا الموضوع من اختصاص وزارة الزراعة”.
وبدورنا تواصلنا مع رئيس بلدية مجدليا نعمان مطر فأكد أنّ “لا ممارسات جائرة في منطقة مجدليا، بل تصل المياه إلى البلدة معكّرة وبصورة غير سليمة، لوجود المعامل التي تصب مخلفاتها في النهر من عاليه وبخشتيه، وعلى طول النهر”، لافتاً إلى أنّ “المواطنين يقيمون منشآت على النهر يطلقون عليها اسم سد لتجميع المياه لري الأراضي، وليس هناك تعديات، بالعكس فمن مصلحة الأهالي الحفاظ على الثروة السمكية وصحة مياه النهر”.
مصلحة الأبحاث العلمية
وتواصل “أحوال” مع “مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية” LARI، حيث تم تزويدنا بوثيقة إحالة من وزارة الزراعة وبالتحديد من رئيس دائرة الثروة الحيوانية في الوزارة بتاريخ 21 تموز (يوليو)، تحت الرقم 272/ح، بفحص عينات من أسماك لتحديد سبب النفوق كيميائياً أو بيولوجياً، ومن رئيس مصلحة الزراعة في جبل لبنان عبود فريحة بفحص مياه النهر تحت الرقم 1980/8. وأشارت مصادر LARI إلى أنّ “عينات الأسماك كانت تالفة للغاية ولم نتمكن من فحصها، بل فحصت مياه النهر في مختبرات المصلحة وبالتحديد في قسم التحاليل الجرثومية للمياه، وصدر التقرير بتاريخ 23 تموز/يوليو من قبل الدكتورة سيلين حجار الحمصي وسلمت النتائج لوزارة الزراعة بتاريخ 11/8، وتبين بأنّ مياه النهر غير مطابقة للمواصفات لوجود الأحياء المجهرية الهوائية والقولونيات والقولونيات المتحملة للحرارة والإيشيريشيا كولي والمكورات العنقودية البرازية وغيرها بكميات كبيرة أي أنّ مياه النهر ملوثة بمياه الصرف الصحي”.
مزرعة ترويت
في هذا السياق أيضا، تواصلنا مع جمال روزبة صبح، وهو صاحب منتزه على نهر مجدليا، ولديه مزرعة ترويت، وأكد أنّه فقد أكثر من مئة كيلو من الأسماك في بركة يزودها بالمياه من النهر، ليقفل الأنبوب الذي يأتي بالمياه، ويعتمد على مياه نبع من الجبل يزوّد بها مزرعته، وأشار صبح إلى أن “ثمة مادة في مياه النهر تقتل الأسماك، وقد أبلغ العديد من المواطنين على طول النهر بعد مجدليا عن هذا النفوق، لذا أقفلت حنفية المياه التي تأتيني من النهر بعد نفوق هذه الأسماك في هذه البركة بالذات”.
وعند سؤاله عن أسباب النفوق، وعن النظريات المتداولة من كهرباء، وكلور وغيرها، قال صبح: “الكهرباء والكلور وحتى الديناميت الذي ثبت استعماله أحيانا، يقتل الأسماك في بركة واحدة وليس على طول النهر، أما الحوز فهو يخدّرها ولا يقتلها، هناك مادة سامة ومن المرجح ان تكون مبيداً أو دواءً زراعياً، فلا شيء يقتل بهذه الكميات وعلى طول النهر إلاّ مادة سامة تقتل الكائنات الحية في النهر”.
برسم وزارة الزراعة
من جهته أكد الناشط الإجتماعي عمر العريضي حصول مخالفات، وقال: “لدينا قطعة أرض لها واجهة على النهر، وقد رصدنا تفجيرات بالديناميت، ونعرفهم بالأسماء، وتواجهنا مع أحدهم وأبلغنا عنه، ولكن لا تحرّك، ووفقاً لما وصلني، فإنّ حالات النفوق وصلت حتى جسر القاضي، ما يؤكد حدوث تلوث من نوع ما”.
ختاما، حاولنا التواصل مع وزارة الزراعة، إلا أنه وفقا للتراتبية، يتطلب الأمر طلباً خاصاً للإدلاء برأي وبموافقة الوزير، لذا نضع المعلومات المرفقة برسم وزارة الزراعة وبالتحديد دائرة الثروة الحيوانية وخصوصاً الثروة السمكية، لإجراء المقتضى من تحقيقات معمقة ودقيقة وتحديد أسباب النفوق. ومن جهتنا، وبانتظار رد وزارة الزراعة، ثمة متابعة للموضوع مع المستجدات.