الدرس الأفغانيّ: هل يتّعظ اللبنانيون؟
ليس غريباً على دول العالم الثالث أن تجد في الحلم الأميركي ملاذاً من المصاعب التي تعيشها شعوبها، فتتعلّق به علماً أنّه أثبت في أكثر من مرّة فشله في دمقرطة المجتمعات وهندسة الحكومات وفق معايير ومصالح أميركية لا تجد ترجمةً لها على أرض واقع دولٍ لا يفقه العم سام حبكاتها وخفاياها. بعد عقدين من رهان الأفغان على الغزو الأميركي، ثبُت فشلُه وتجسّد في صورة قائد الفرقة 82 المحمولة جواً اللواء كريس دوناهو سائراً وسلاحه في يده ليستقل الرحلة الأميركية الأخيرة من مطار كابُل. ولربما فيديوهات الجنازات الوهمية التي نظّمتها حركة طالبان للقوات الأميركية وقوات حلف الناتو والتي تظهر فيها الحشود ملوّحةً بأعلام الحركة ورافعةً توابيتَ مغطاةً بأعلام الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والناتو أدلُّ على الهزيمة الأميركية في أفغانستان.
فهل يتّعظ اللّبنانيون، أو بعض اللّ بنانيين، الذين لطالما ارتهنوا لحساباتٍ أميركيةٍ وطالبوا بالتدخّل الدّولي وبوضع لبنان تحت سلطة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبالمحاكم الاستنزافية وبالحياد عن قضايا شعوب المنطقة؟
الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله نصح من يريد المراهنة على الضمانات والوعود الأمريكية من اللبنانيين، بوضع صورة أفغانستان أمامه، علّه يعرف حينها أنّ “هذه هي أميركا”. فماذا يجب على هؤلاء المراهنين المرتهنين أن يتعلّموا من الدرس الأفغانيّ؟
أولاً: الولايات المتحدة تتخلّى عن أصدقائها ولا تُشاور حلفاءها
بلمح البصر تمكّنت حركة طالبان من السيطرة على الولايات الأفغانية واحدةً تلو الاخرى، وصولاً إلى العاصمة كابُل، ليكون رد فعل الولايات المتحدة الأوّل إجلاء الرعايا من مواطنين أميركيين ومن ثم أفغان تعاونوا مع قواتها، أو بالأحرى من استطاع إلى مطار كابل سبيلاً. في طائراتٍ شحنٍ كدّستهم، وخلف عجلاتها هرولوا، وعلى أجنحتها تراكموا، ومنها تساقطوا ليرتطموا بحقيقة أنّهم ليسوا أميركيين كالأمريكان.
ورغم المشاهد التي صدمت العالم وأثارت حفيظة المدافعين عن الإنسان وحقوقه حتّى في الداخل الأميركي، أشاد الرئيس جو بايدن بالعملية النظيفة التي أنجزتها حركة طالبان في استلام السلطة من دون إصابة ديبلوماسيٍ أميركيٍ واحدٍ أو تعرُّض سفارة غربية للأذى. ولكن ماذا عن الأرواح؟ ماذا عن الأفغان؟
في أصعب اللحظات تخلّت الولايات المتحدة عن أصدقائها الأفغانيين، من حكومةٍ ومدنيين وجيشٍ، اتضح أنّه لم يكن مستعدّاً رغم العديد والعتاد لمواجهة حركة طالبان. أما حلفاؤها الأوروبيون، فتعاطت معهم الإدارة الأميركية بفوقيّةٍ معهودةٍ ولم تشاورهم في قرار وكيفية الانسحاب. حتّى البريطانيّون، ثاني أكبر المتورطين في أفغانستان، لم تشاورهم. وعوضاً عن ترميم العلاقة مع الاتحاد الأوروبي الذي كان من أهداف بايدن بعد الدمار الذي ألحقه سلفه دونالد ترامب بها، جاءت الهزيمة في أفغانستان بمثابةٍ هزّةٍ جديدةٍ لحلف شمال الأطلسي.
فما هو الضمان أن الأمريكيين لن يتخلوا عن أصدقائهم اللبنانيين، من أحزابٍ وجمعيات مجتمعٍ مدني، بالطريقة التي تخلوا بها عن الأفغان؟
ثانياً: لا مبادئ بل مصالح
للمؤمنين بالشعارات الغربية المطالِبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، اسألوا ملالا يوسف زي الناشطة الباكستانية عن حال أخواتها وصديقاتها الأفغانيات بعد تخلّي الولايات المتحدة عنهنّ. هل حرّكت تغريدتها التي أعربت فيها عن قلقها على النساء والأقليات في أفغانستان داعيةً الوكالات الأممية للتدخل وحماية اللاجئين والمدنيين ساكناً في صانعي القرار؟
نعم، مصالح الحلفاء مهمّةٌ لدى الإدارة الأميركية، لكن فقط عندما تتلاقى مع مصالحها. أما حقوق الإنسان، التي لا تطبّقها حتّى في المجتمع الأميركي، ما هي إلّا وسيلة تتاجر بها لبلوغ أهدافها.
فالحرب الأفغانية، أطول الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة بعد حروب العراق وفيتنام وكوريا والحرب العالمية الثانية، كلّفت الولايات المتحدة نحو 822 مليار دولار على الأغراض العسكرية، 143 مليار دولار على جهود إعادة إعمار أفغانستان، 241 ألف قتيلٍ، بينهم 3500 من قوات التحالف الدولي، منهم 2300 جنديٍ أميركيٍّ قُتلوا، وأكثر من 206 آلاف أُصيبوا.
ومن هذه الأرقام وسواها، جاء قرار الإنسحاب الأميركي. فالسياسة الخارجية تحكمها الكلفة لا المبادئ. وفي حال غزت الولايات المتحدة لبنان، هل ستضحّي وتغيّر سياساتها كرمى لعيون مَن يقدّسها من اللبنانيين؟
ثالثاً: الولايات المتحدة تخلّف إرهاباً وحروباً داخليّةً
طيلة عشرين عاماً من الاحتلال، غذّت الولايات المتحدة داخل أفغانستان الانقسامات القبلية والعرقية والسياسية، ومع انسحابها الفوضوي لا يُستبعد أنّها كانت تراهن على ضرب حركة طالبان والجيش الأفغاني ببعضهما البعض. أميركا كانت تريدها حرباً أهليةً في أفغانستان، رغم أنّ الفسيفساء العرقية في هذا البلد لها امتدادات في دول الجوار مثل تركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وأيّ توتّرٍ بين المجموعات الداخلية لن ينحصر ضمن حدود أفغانستان. ألّا يُذكّركم ذلك بالاقتتال السنّي الشيعي في العراق ودور الولايات المتحدة فيه؟
فإمّا أن الولايات المتحدة لا تزال جاهلةً في تركيبة دول العالم الثالث وحساسياتها العرقية والقبلية والطائفية، ولا تتعلم من أخطائها (هذا إذا أردنا أنّ نأخذها على المحمل الحسَن)، أو أنّها خبيرةٌ فيها وتقارير سفاراتها وعملائها صائبة، وهي تعرف حقّ المعرفة كيف تستغلّ هذه الحساسيات لإشعال حروبٍ أهليةٍ تمكّنها من تحقيق غاياتها.
ناهيك عن دورها في تعبيد الطريق أمام نشوء وتمدّد الجماعات الإرهابية. فبعد الغزو الاميركي للعراق، ومن تنظيم القاعدة فيه، انبثق تنظيم داعش واستولى على الموصل، قبل أن يتمدّد إلى سوريا، ويصبح خطراً داهماً يهدّد المنطقة ويُرهب العالم.
وعندما وصل الإرهاب إلى حدود لبنان، أين كانت الولايات المتحدة وتحالفها الدولي؟ أين كانت عندما قُتل العسكريون في جرود عرسال وعندما تمدّد الإرهاب في سلسلة الجبال الشمالية الشرقية وعندما أرسل سيارات الموت المفخخة إلى مدن وبلدات لبنان؟ وأيُّ خيرٍ تريده الولايات المتحدة للبنان من خلال حصاره اقتصادياً وفرض العقوبات وتأليب اللبنانيين على مَن يقاوم حليفتها اسرائيل وسعيها إلى خلق الشقاق بين طوائفه وأحزابه؟
في المحصلة، بعد عشرين عاماً انهزمت الامبراطورية الأميركية في أفغانستان، ومن الدرس الأفغانيّ، على شعوب المنطقة، وفي مقدّمتهم اللبنانيّون، أن يتّعظوا ويدركوا جيداً أيَّ دمارٍ تُلحقُه الولايات المتحدة في كلّ بلدٍ تطأ أقدامُ جنودِها ترابَه، فما بالكم بالتراب اللّبناني، البيئة الخصبة لنمو بكتيريا التدخل الخارجي والفتنة والحروب والإرهاب؟!
عَنه، اسألوا شيا.