لبنان ومتحوّرات الأمن الاجتماعي الذاتي
نجح لبنان منذ العام 2005 بمنع تفشي ظاهرة الأمن الذاتي ( القائم على التسلح بشكل أساسي في أطر جماعية أكثر منها فردية)، رغم مسلسل الاغتيالات والانفجارات وظاهرة السرقات حتى بعد الانهيار المالي والاقتصادي في خريف 2019 وارتفاع نسبة السرقات والتشليح – أقله حتى الساعة.
في المقابل، وفي خطوة تعكس حيوية المجتمع وتعاضده، بدأ الجميع من أحزاب ومؤسسات دينية وهيئات إجتماعية وحتى أفراد العمل على تعزيز الأمن الاجتماعي في ظل تحلل مؤسسات الدولة وإستقالة الاخيرة من القيام بواجباتها تاركة الجوع وفقدان الدواء والعتمة وطوابير الذل امام محطات المحروقات والافران والمصارف تخيّم على اللبنانيين.
نفق الأمن الذاتي
هنا، دخلنا في نفق الأمن الاجتماعي الذاتي وتوّهم بعضهم أن باستطاعته بصندوقة “اعاشة” وبطاقة تغذية و”بونات” بنزين وتوزيع بعض الادوية وحفنة من الاموال أن يملء فراغ الدولة. إلا أن حجم الانهيار الشامل الذي يعيشه لبنان وخصوصاً على صعيدي قطاعي الصحة والطاقة من فقدان الكهرباء والمحروقات، جعل من سابع المستحيلات ان يملأ اي كان فراغ الدولة. فبدأنا جراء ذلك نشهد كما في جائحة كوفيد متحورات على صعيد الامن الاجتماعي الذاتي.
من هذه المتحورات ما بدأ يشوّه جوهر هذا الأمن الاجتماعي كعمليات السطو على صهاريج المحروقات في اكثر من منطقة وتوزيعها على المواطنين والنتيجة تهديد الاستقرار الامني والحيلولة دون وصل هذه المحروقات الى بعض المناطق. كذلك، هناك ظاهرة حصرية التعبئة في بعض المحطات لأبناء البلدة.
لكن ثمة ظواهر تستحق التوقف عندها في هذه المتحورات بدأت تخرج الى العلن في أكثر من منطقة ومن قبل أطراف تختلف مشاربها السياسية وخلفياتها الثقافية والاقتصادية وهي مطالبة الدولة بحصة من المحروقات: بنزين ومازوت وغاز ليس للمستشفيات او معامل الدواء او المطاحن على سبيل المثال بل لهذا القضاء او تلك المنطقة حصراً.
أرض خصبة للفدرالية
بحكم الواقع والممارسة والمعاناة، هذه الدعوات تعكس توسع إنتشار مبدأ اللامركزية الموسعة أفقياً التي تلامس تبلور أرض خصبة للفدرالية وكسر الـ”تابو” في طرحها وتخطي بدعة شيطانتها تحت ستارة فزاعات خاطئة كـ”التقسيم” و”الانعزالية” أو وسم طرحها بطابع طائفي.
ترافق هذا الانتشار الافقي في الاشهر الماضية مع خروج الحديث عن “الفدرالية” الى العلن في الاشهر الماضية واستحوازها على مساحات اعلامية. صحيح الا طرح موحد لهذه الفدرالية وآليات عملها، لكن الاصح ان هذا الامر بديهي لأنها طبيعة نظام حكم لا يجب إستيراده وإسقاطه بل يجب الاخذ بالتجارب التراكمية للدول التي إعتمدته ولبنانته ليتفاعل مع الواقع القائم عندنا والتحديات التي نواجهها.
إن الواقع على الارض يزيد من تقبل اللبنانيين لهذا الطرح لأن الغاية من أي نظام هي خدمة الانسان وليست الغاية جعل الانسان وقوداً للنظام. بعد ما يمر به اللبنانيون سقطت كل “المقدسات” او “المحرمات” واصبح هاجسهم الاول العيش بكرامة. هنا يلتبس الامر على بعضهم ممن يعتبر ان العيش بكرامة يعني توفر الغذاء والدواء والخدمات الاساسية فيما جوهر العيش بكرامة هو عدم إستجداء هذه الحقوق البديهية بل التمتع بها دون اي منيةّ بالتوازي مع إمتلاك حق حرية الرأي والسعي الى السعادة الذي يشكل احد المبادئ الانسانية المطروح بقوة في هذه الالفية.
ما يعيشه لبنان اليوم ليس أزمة عابرة بل إستحقاق وجودي مفصلي – ما بعده ليس كما قبله – وحين تدق ساعة الجد بعدما يسقط فائض القوة عند بعضهم و”عنجهية” السلاح قد يكون طرح الفدرالية اضحى متقدماً عمودياً كما هو اليوم أفقياَ.