تونس تنتفض وتُطيح بإخوان “النهضة”
تونس التي قدمّت للعرب اللّحظة التاريخية التي هرموا لأجلها في نفض الديكتاتورية وبناء المؤسسات، تنتفض مجدّدًا على صورة انقلاب ضد الحكومة والبرلمان.
أزمة سياسية عميقة تدور منذ أشهر بين قيس سعيد, رئيس الجمهورية التونسية, والكتلة البرلمانية التي يُسيطر عليها الإسلاميون ممثلة في حركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي، وخلافات مع رئيس الحكومة هشام المشيشي وتمخضّت عنها تظاهرات شعبية واسعة ضدّ الحكومة والمعارضة معاً. هذه الأزمة التي تُعطل
وبعد تجاذبات مستمرة منذ ستة أشهر بين الرئيس سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي زعيم أكبر الأحزاب تمثيلاً في المجلس، أصاب الشلل عمل الحكومة وتسبّب بفوضى في السلطات العامة، في وقت تواجه تونس منذ مطلع تموز/ يوليو ارتفاعاً حاداً في عدد الإصابات والوفيات، التي تخطت 18 ألف حالة وفاة، جراء فيروس كورونا بسبب ضعف خطط المواجهة الحكومية.
أمام هذه الأزمات والخلافات اتخذّ رئيس الجمهورية التونسية عددًا من القرارات، بعد ترؤسه اجتماعًا طارئًا للقيادات العسكرية والأمنية، أهمها تجميد كل اختصاصات المجلس النيابي، ورفع الحصانة عن كل أعضائه، بالإضافة إلى إعفاء رئيس الحكومة، هشام المشيشي من مهامه، على أن تتمّ دعوة “شخص آخر” لتولّي مهام السلطة التنفيذية وفق ما أعلنه سعيّد، محتكمًا إلى “أحكام الفصل الثمانين من الدستور مع رئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي”.
قرارات سعيّد، التي عدّتها المعارضة انقلاباً، علّلها بأنّها دستورية وهي “تدابير يقتضيها هذا الوضع لإنقاذ تونس، الدولة التونسية والمجتمع التونسي”، مشيراً إلى أنّ بلاده تمرّ “في أدق وأخطر اللّحظات في تاريخ تونس”. وفيما قال إنّه “لا مجال لأن نترك لأحد أن يعبث بالدولة وبمقدراتها وأن يعبث بالأرواح والأموال، ويتصرف في الدولة التونسية وكأنّها ملكه الخاص”، أضاف “اتخذت جملة من القرارات التي سيتم تطبيقها فوراً”.
هذه الخطوة جاءت بعد يوم من الاحتجاجات ضد الحكومة وحزب النهضة الإسلامي المعتدل عقب زيادة في الإصابات بفيروس كورونا وتزايد الغضب من الخلل السياسي المزمن والمشكلات الاقتصادية التي سلّمت موارد الدولة ومؤسساتها إلى البنك الدولي وشركاه في العالم مما أثار سخطًا كبيرًا بين “التوانسة”.
التحدّي الكبير الحالي أمام الدولة التونسية هو الأكبر بعد ثورة 2011 التي أطلقت شرارة “الربيع العربي” وأطاحت بالحكم المطلق لصالح الحكم الديمقراطي لكنها على ما يبدو لم تنجح حتى الآن في تحقيق الحكم السليم والنهوض الوطني الذي حلِم به التونسيون ولا الرخاء.
ماذا تقول المادة 80 من الدستور؟ “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذٌر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب.
التعليق سيكون لمدّة 30 يوماً، بحسب ما أوضح سعيّد في منشور لاحق على “فيسبوك”. وأضاف أن الدستور لا يسمح بحل البرلمان، لكنه سمح له بتعليقه، مستشهداً بالمادة 80 التي تسمح بذلك في حالة “الخطر الوشيك”. وقال “اتخذت القرارات اللازمة لإنقاذ تونس والدولة والشعب التونسي”.
انقلاب وحرق جسور أم تصويب مؤسساتي
قرارات الرئيس التونسي أججت الشارع الذي انقسم بين مؤيدين وداعمين لرحيل الحكومة الهشة والضعيفة، وللبرلمان الخاضع لسلطة حزب “النهضة” الإسلاموي المدعوم من قطر وتركيا، التي استنكرت عبر حزب العدالة والتنمية الحاكم الخطوات الرئاسية.
السؤال الأكثر تداولاً، هو: هل ما قام به قيس سعيد يمثل تصحيحًا لمسار الثورة التونسية، أم أنه انقلاب على الدستور؟
إثر خطاب سعيّد خرج المئات من التونسيين للاحتفال في الشوارع بالرغم من حظر التجول الليلي الذي أقرته السلطات وتجمعت حشود ضخمة لدعمه في تونس ومدن أخرى وتعالت الهتافات والزغاريد في الوقت الذي طوق فيه الجيش مبنى البرلمان والتلفزيون الحكومي.
ومنع المئات من مناصري الرئيس سعيّد مؤيدي النهضة من الاقتراب من زعيمهم الغنوشي الذي جلس داخل سيارة أمام البرلمان وتبادل الطرفان رمي الحجارة والعبوات، ومُنِع الغنوشي المعتصم أمام أبواب البرلمان الموصدة من الدخول إلى المبنى من جانب الجيش المتواجد أمام المبنى وسط صياح المتظاهرين “ديغاج” أو “إرحل”.
الغنوشي (80 عاماً)، الذي لعب دوراً في الحكومات الائتلافية المتعاقبة، ندّد بهذه الإجراءات ووصفها بأنها “انقلاب” و”اعتداء على الديمقراطية”. وخلال وجود خارج مبنى البرلمان، إنه يعترض على جمع كل السلطات في يد شخص واحد. ودعا في وقت سابق التونسيين للنزول إلى الشوارع كما فعلوا يوم الثورة في 2011 للاعتراض على هذه الخطوة.
في السنوات العشر التي تلت الثورة التونسية باكورة “الربيع العربي”، شهدت السلطة التنفيذية تبدّل 9 حكومات، بعضها بقي لبضعة أشهر فقط، مما أعاق الإصلاحات اللازمة لإصلاح اقتصادها المتعثر والخدمات العامة السيئة. وتفشّت حالات كورونا على تونس مؤخرًا وكانت سبباً في إقالة رئيس الحكومة المشيشي وزير صحته بسبب تعامله مع الوباء.
كل ذلك في كفّة والتعامل مع رئيس مجلس النواب الإخواني راشد الغنوشي في كفّة أخرى، فرئيس حزب النهضة الإخواني، الذي أتى على قطار الانتخابات الديموقراطية، كان عاملاً رئيسًا في زيادة الخلل بين السلطات الثلاث في الجمهورية التونسية وهو اليوم موضوع تحت الإقامة الجبرية وممنوع من السفر.
تراجع نفوذ حركة النهضة الإخوانية سياسيًا وشعبيًا في تونس بعدما عطلوا العمل الحكومي والأعمال البرلمانية والتشريعية خدمةً لمشاريعهم. وبسبب آدائها السياسي المنفصل عن تاريخ ومزاج “التوانسة” في إقامة الدولة المدنية على أسس قانونية ودستورية تقدّمية أدّى إلى ترجيح التصفيق في أن ينجح التونسيون في تحجيم دور الإخوان السياسي.
بالتّزامن مع الذكرى 64 لإعلان الجمهورية في 25 تموز / يوليو من كل عام، تبدو هذه الأحداث أنها تصويب لآداء الجمهورية التونسية وسط دعوات للمطالبة بإنهاء الأزمة السّياسية ورحيل الحكومة وحلّ البرلمان.
المستجدات السياسية والدستورية في تونس كانت مثار تعليقات وجدل على مواقع التواصل الاجتماعي في تونس وفي كافة الدول العربية. وكان للمعلقين والصحف في تونس بالأزمة السياسية الجارية في البلاد. وتحت عنوان “هل احترقت كل مراكب العودة”، تقول الصحافية منيرة رزقي إن “المشيشي أحرق خلفه جميع المراكب ولم يعد للصلح مكان” بينه وبين قيس سعيد، لافتةً إلى أن صراع الرئيس “العلني مع رئيس الحكومة الذي قام بتزكيته قد بلغ مرحلة “كسر العظام” وبالتالي فالقطيعة بين الرجلين “قد وصلت درجات قصوى لا يمكن معها تجسير الفجوة بينهما”.
وعن الصراع بين الرجلين، تشير منيرة إلى أنّ “خلافهما الحاد وقطيعتهما إذا أضفنا لها حالة الاحتقان في الشارع والغضب الشعبي الذي بلغ مداه وانهيار المنظومة الصحية تكون بذلك مؤشرات احتضار إن لم نقل موتًا سريريًا للجمهورية الثانية”.
في ظلّ نظامٍ برلماني أنْ ينْقب رجلٌ واحد على جميع الصلاحيات ويحتكر كافة السلطات هو أمرٌ في غاية الخطورة بحسب بعض المعلقين الموالين لحزب “النهضة” وأنصارهم في الدول العربية, لكن يبدو أن المؤسسة العسكرية وأحزاب ونقابات وقطاعات كبيرة تدعم خطوات رجل القانون والدستور، الضليع في اللغة العربية، الذي رأى فيه البعض الإمبراطور نابليون الذي صادر صلاحيات الدولة بعد الثورة الفرنسية، ولكن ما دامت هذه الإجراءات ستكف يد الإخوان عن السلطة التشريعية المكبّلة بمعايير ومفاهيم خاطئة وبحسابات تنسجم مع الجماعة العالمية فلا بد من الانتظار لتتكشّف الصورة إن كان انقلاباً على الديموقراطية ومصادرة لصلاحيات المؤسسات أم تصويباً لعمل المؤسسات الدستورية.
رانيا برو