حليب الأم.. لقاحٌ لا بديل عنه للطفل
جوانا عقيقي
صرعة العصر اليوم هي اللقاحات ضد الفيروسات، لاسيما فيروس كورونا. أي لقاح هو الأفضل؟ أي لقاح توصي به حكومات الدول؟ متى وكيف تؤخذ الجرع؟ تساؤلات لا تنتهي، والمخاوف تسيطر على عقول المواطنين؛ فسرعة الاكتشاف تثير قلق البعض، وأقدمية اللقاحات التقليدية تحثّ الشركات على تطوير منتجاتها. لكن لقاحًا واحدًا من صنع الله، بعيدًا عن الأيادي الطبية، تغفل عنه بعض النساء.
“حليب الأم” هو اللقاح الغني بالمغذّيات ومواد مناعية تقوّي جهاز مناعة الرضيع وترافقه مدى الحياة. لقاحٌ لا جرعات محدّدة له، وصلاحية استخدامه لامتناهية؛ ورغم أهميته، تتلاشى بعض النساء عن تقديمه لأطفالهنّ لأسباب عدّة.
ما هي أهمية الرضاعة الطبيعية وما هي الإشكاليات من حولها؟
الرضاعة كنزٌ ثمينٌ للأطفال
لا تُعتبر فترة الولادة وما يليها بالفترات السهلة بالنسبة للأمهات، إذ تشغل هواجس كثيرة بالهنّ، حيث تعيش كل أم تجربة جديدة ونجدها في بحثٍ مستمر عن أجوبة لتساؤلاتها المتعدّدة. لذلك، وُجدت منظمات عالمية كثيرة تحاول الوقوف إلى جانب الوالدة.
من هنا، من الضروري التوقّف عند أبرز الإيجابيات النفسية والجسدية للرضاعة الطبيعية للطفل، نذكر منها:
أولًا من ناحية الصحة الجسدية:
يُعتبر حليب الأم، وفق منظمة الصحة العالمية، الغذاء السليم الذي يحصل عليه الطفل؛ إذ يحصل على فكّين مناسبَين وأسنان جيدّة ما يسهّل التواصل فيما بعد، كما يخفّف حليب الأم من اضطراب المعدة -الإمساك- ويسهّل عملية الهضم. كما يحظى الطفل بمناعة أقوى ومحاربة الالتهابات على أنواعها، إلى جانب الأمراض التنفسية، الربو والسمنة.
ثانيًا على الصعيد العاطفي والنفسي:
تُعزّز الرضاعة، بحسب منظمة الصحة العالمية، العلاقة بين الأم وطفلها، الأمر الذي يزيد لديه الشعور بالأمان، السعادة والنوم بشكل أفضل.
وفي إطار أوسع، تؤكد طبيبة الأطفال وأخصائية العناية الفائقة في مستشفى “أوتيل ديو” ومستشفى ومركز “بلفو” الطبي، كارلا الهبر، أنّ الرضاعة عنصر أساسي للأطفال المولودة قبل أوانها، أو ما يُعرف بالأطفال “الخدج”، حيث يُخفّف حليب الأم من الالتهابات، ويقلّل نسب دخول الطفل إلى المستشفى بعد خروجه من العناية الفائقة، كما يقلّل حليب الأم من مخاطر الموت المفاجئ لدى الرضيع.
وفي السياق ذاته، تضيف الطبيبة أنّ حليب الأم يحتوي على الأجسام المضادّة المكوّنة من البروتينيات التي تحمي الطفل من الإصابة بأنواع من السرطانات، لا سيما “اللمفوما”.
كذلك، تشير الهبر إلى أنّ الأم لا يتوقف عملها فقط على تأمين الغذاء لطفها في الأشهر الأولى من حياته، بل تلعب دورًا بارزاً على المدى البعيد. أي بمعنى آخر، تُقلّل الرضاعة من خطر ارتفاع ضغط الدم والإصابة بمرض السكري، كما تلعب دورًا مهمًا في تحفيز نموّه الذهني والعاطفي التفاعلي.
الرضاعة الفورية.. أمل في الحياة
برزت في السنوات الأخيرة الرضاعة الطبيعة الفورية عقب الولادة كمسألة هامة، فأخذت حيزًا واسعًا من الدراسات وأبحاث الأطباء والمتخصصين. وقد أظهر تقرير لمنظمة “اليونيسف” أنّ الرضاعة الفورية من شأنها أن تساعد المولود الجديد على تمييز رائحة أمّه، وهو الأمر الذي يُسهّل له عملية زيادة فرص الرضاعة لمدّة أطول. هذا وتُساهم الرضاعة الفورية في التخفيف من خطر الموت المفاجئ ما بعد الولادة وتجنّب العدوى.
“اللبأ” هو المادة الأولى من الحليب الغنية بمواد مضادات الالتهابات، أي كريات الدم البيضاء. وفي هذا الإطار، تشير المديرة التنفيذية لليونيسف في العام 2018 “هنريتا إتش فور” إلى أنّ كلّما حظي الطفل بكمية كافية من الحليب في الساعات الأولى، كلما استفاد أكثر صحيًا، فهو بمثابة اللقاح الأوّل للمولود باعتباره غنيًا بالبروتينيات التي من شأنها أن تُقوي جهاز المناعة.
أمّا على صعيد لبنان، فأظهرت دراسة محلية عام 2017، أُجريت في مستشفى سيدة المعونات في جبيل، أهمية الرضاعة الفورية عند الولادة لمدّة ساعة حتى قبل خروج الأم من غرفة العمليات. وفي تفاصيل الدراسة، تمّ معاينة 82 طفلًا بدءًا من تشرين الثاني من العام 2016 لغاية شهر آذار من العام 2017، وقد تمّ اختيار العيّنة بشكل عشوائي مع الأخذ بعين الاعتبار رغبة الأم في الرضاعة لحظة الولادة. أمّا النتيجة التي توصلت إليها الدراسة، فهي أنّ الرضيع يتمتّع بالهدوء، اليقظة والتفاعلية أكثر من غيره من الأطفال الذين لا يحصلون على الرضاعة في الساعات الأولى فور الولادة.
انعكاس الرضاعة على صحة الأم
لا تقتصر فوائد الرضاعة الطبيعية على الطفل، بل بدورها تنعكس إيجابًا على صحة الأم. فالرضاعة الطبيعية، بحسب كل من منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، تُساهم في الحدّ بشكل أساسي من خطر إصابة الأم المرضعة بسرطان الثدي، الرحم والمبيض.
وفي هذا الإطار، تشير الطبيبة النسائية في مستشفى المشرق، جويل عياط، إلى أنّه كلّما زادت الرضاعة عن الخمسة أشهر، كلما ترتفع فرص النجاة من إصابة المرأة بسرطان الثدي، كما يتراجع خطر الإصابة بهشاشة العظام، السكري من النوع الثاني وحتى السمنة. واعتبرت الطبيبة أنّ جسم الأم بحاجة إلى 500 سعرة حرارية إضافية لصناعة الحليب، ما يساعد الأم على تخفيف وزنها.
من جهة أخرى، تؤكد د. عياط أنّ الرضاعة تلعب دوراً مهمًا في عودة الرحم إلى حجمه الطبيعي، والسبب يعود نتيجة فرز الجسم “هورمون الأوكسيتوسي” الذي يزيد من تقلّصات الرحم في وقت مبكر، بالإضافة إلى دور الرضاعة المهم في التخفيف من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
أما من الناحية المعنوية والنفسية، فإنّ الأم المرضعة هي الأكثر حظوظًا من الأم التي تعتمد على الحليب المصنّع، فهي تقلّل من نسب الكآبة ما بعد الولادة، كما تنشأ علاقة قوية بين الأم وطفلها، حيث تشدّد د. عياط على أنّ هذه العلاقة تساعد الأم على فهم حاجات ابنها أو ابنتها.
معتقداتٌ خاطئة تعرّض حياة الطفل للخطر
يُثبت تطوّر العلم يومًا بعد يوم وجود معتقداتٍ خاطئة لطالما لجأت إلى استخدامها الأمهات الجدد في المراحل الأولى من فترة ما بعد الولادة. ولقد عارضت الجمعيات المختصة وأخصائي الرضاعة بما يُعرف بـ”خبرة الجدّات التقليدية”.
سنتطرّق هنا إلى أبرز الأخطاء التي تقوم بها الأمهات خلال فترة الرضاعة، مع تسليط الضوء في المقابل على أبرز المعلومات الدقيقة والعلمية حول مسألة الرضاعة.
في البداية، من الأمور الشائعة التي تحصل هي تقديم الأم الماء لمولودها، وبشكل خاص خلال فصل الصيف كي لا يعاني من الجفاف، لكن منظمة الصحة العالمية تؤكد أنّ المياه تُشكل حوالي 85% من حليب الأم. لذلك، يتوجّب على الأم أن تُكثر من شرب السوائل ما يُوفّر الكمية الكافية من الماء للطفل خلال فترة الرضاعة.
ويرى البعض أنّ حليب الأم غير كافٍ لتأمين الاحتياجات الغذائية للطفل، لذا عليها أنّ تقدّم له ما يعرف بحليب “الفورمولا”. ولكن لا بديل عن حليب الأم للطفل لا سيما في الأشهر الستة الأولى، فهو غني بمختلف الفيتامينات والكالسيوم التي يحتاجها أي طفل.
لا تنتهي المعتقدات الخاطئة هنا، فتظن نسبة كبيرة من الأمهات أنّ عليها أن تبدأ بتقديم الطعام في عمر مبكر لطفلها، وذلك من أجل تقوية أسنانه. في هذا السياق، تُوضّح الأخصائية في الرضاعة، ريما الحج سليمان، أنّ حليب الأم يُعتبر مصدرًا أساسيًا للكالسيوم الذي يُساهم في تقوية الأسنان والحفاظ عليها على المدى البعيد.
من جهة أخرى، يُشدد الكثيرون على فكرة ضرورة إعطاء الرضيع الحليب المُصنّع عبر الزجاجة كي يحصل على الكمية المناسبة من الطعام، ما يجعله ينام لمدّة أطول في ساعات الليل.
في المقابل، تظن بعض الأمهات أنّ إسهال رضيعتها أو رضيعها سببه الحليب من الرضاعة الطبيعة، فتبتعد عن الرضاعة وتستخدم الحليب المُصنّع. وهنا تشير الأخصائية ريما الحج سليمان إلى أنّه من الطبيعي أنّ يتبرز الطفل أكثر من أربع مرّات في اليوم الواحد وصولًا إلى اثنتي عشرة مرّة في بعض الحالات، كونه لا يتناول سوى الحليب ويميل لون البراز إلى الأصفر والأخضر البرتقالي.
أبرز التساؤلات والمعوقات حول الرضاعة
تتساءل العديد من النساء “إلى أي مدى تستطيع الأم أنّ تستمرّ في عملية الرضاعة؟”. يبدو الجواب معقّدًا، ولكن الأكاديمية الأميركية لطب الاطفال توضح أنّ ليس هناك من مدّة محددة للرضاعة، فبإمكانية الأم أن تستمرّ بذلك وفق قدرتها ورغبتها.
وفي هذا الإطار، تظهر مراكز مكافحة الأمراض والوقاية CDC (مركزها في الولايات المتحدة) أنّ حوالي 15% فقط هي نسبة الأمهات اللواتي يرضّعن أطفالهن حتى عمر السنة ونصف السنة.
وبحسب الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال، فإنّ إصابة الأم بسرطان الثدي لا يعيق عملية الرضاعة، لكن عليها أن تتوقف عن تقديم الحليب لمولودها في حال كانت تخضع للعلاج الكيميائي أو علاج الأشعة. إلى جانب ذلك، هناك بعض العمليات الجراحية التي من الممكن أن تعرقل الرضاعة الطبيعية، كونها تسبب الآلام للأم.
لا شيء يمنع الأم من مواصلة تقديم أفضل وجبة غذائية لرضيعها، حتى فيروس كورونا المستجد. وهذا ما تؤكده كل من طبيبة الأطفال وأخصائية العناية الفائقة، كارلا الهبر، وأخصائية الرضاعة، ريم الحج سليمان، بأنّ فيروس كورونا لا ينتقل من الأم إلى ابنها عبر الحليب، وبالتالي تستطيع الأم أنّ تؤمّن له الغذاء دون أي تردّد، شرط أنّ تلتزم بإرشادات الوقاية وأبرزها ارتداء الكمامة وتعقيم اليدين بشكل مستمر.
الشروط الملائمة للرضاعة الطبيعية
توصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بمتابعة الرضاعة الطبيعية للطفل حتى بلوغه عمر السنة -هذا الأمر مرتبط بالطبع برغبة كل من الأم وطفلها- كما تركز الأكاديمية على ضرورة الدعم المعنوي، الاجتماعي والتسويق للرضاعة الطبيعة من قبل أطباء الأطفال وأخصائي الرضاعة، مشيرة إلى أنّ التسويق مبني على الثقافات المختلفة من بلد إلى آخر، ومشجعة زيادة التدريب على الرضاعة، لا سيما في كليات الطبّ.
في هذا الإطار، تنتشر التوصيات الصادرة عن كل من الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال ومنظمة الصحة العالمية لحثّ الوالدة على الرضاعة، شرط تأمين البيئة المناسبة لذلك، انطلاقاً من عائلتها الصغيرة ومكان عملها، وصولًا إلى الأماكن العامة، كما يلعب الأب دوراً بارزًا في تشجيع الأم على الرضاعة.
التبرع بحليب الأم أصبح ممكنًا
تلعب الجمعيات غير الحكومية، كما ذكرنا سابقًا، دورًا بارزاً في تشجيع النساء على الرضاعة الطبيعية؛ فهذه المنظمات منتشرة حول العالم من أجل دعم الأم وتوفير كافة الاحتياجات لها.
هناك منصة معروفة باسم “من أم إلى أم (mom to mom)”، وشعارها Human Milk TO human Babies. تعمل هذه المنصة على تبادل الحليب الطبيعي بين الأمهات في حال كانت أم الطفل الموهوب الحليب متوفية أم تعاني من مرض ما يمنعها من الرضاعة الطبيعية، أو حتى فقدان الحليب المصنّع من الأسواق. تتمّ عملية التبادل بين الأمهات على الدقة والمصداقية وحسن توضيب الحليب وتأمين البرودة المناسبة له.
من هنا، إنّ الدراسات حول الرضاعة الطبيعة كثيفة وغنية بالمعلومات التي تشجّع الأم على اتباع الرضاعة كمصدر أساسي لتغذية الطفل. وبالتالي فالظروف الشخصية والاجتماعية التي تحيط بالنساء، تُعتبر شرطًا أساسيًا لدعمهن في المثابرة على تقديم الحليب الطبيعي لأولادهن. هكذا كثّفت المنظمات غير الحكومية جهودها حيال هذا الموضوع، ليبقى السؤال: متى سيكون المجتمع المدني والحكومات سندًا رئيسيًا لدعم الرضاعة الطبيعية؟.
ھذا التقریر نُشر كجزء من مشاركة الكاتبة فى ورشة الصحافة العلمیة ومن خلال مشروع “الصحافة والعلوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا”، وھو أحد مشروعات “معھد جوته” الممولة من قبل وزارة الخارجیة الألمانیة.