بالسياسة.. كيف تعطّلت تعيينات مجلس القضاء الأعلى؟
في الثامن والعشرين من أيار بات القضاء رسميًا من دون مجلس أعلى. يأتي هذا التطور فيما تنزلق البلاد إلى مراحل متقدمة جدًا على طريق الانهيارات المتنوعة ماليًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
قد لا يبدو هذا الفراغ مهمًا في أولويات اللبنانيين المنغمسين في التفتيش عن قوتِهم اليومي ودوائهم ووقودهم، لكن التعطيل الذي يضرب المؤسسات الدستورية الواحدة تلو الاخرى بعد فقدان المجلس الدستوري نصابه، سيضرب انتظام عمل القضاء في المدى المنظور.
الفراغ القضائي بسبب انقضاء مهلة عضوية أفراده، يأتي في زمن انهيار المؤسسات، وفي وقت يضع اللّبنانيون الجسم القضائي ضمن “فصائل” المؤسسات المنهارة والمتردية بفعل الفساد والتدخلات السياسية. هذه “اللاثقة” تؤلم أفراد الجسم القضائي ممن تطوقهم السياسة، وتدارسها مجلس القضاء الأعلى يوم الخميس الفائت في جلسة لمناسبة انتهاء ولاية أعضائه غير الحكميين حيث ختم فيها جدول أعماله، وتوجّه إلى القضاة، طالبًا منهم المثابرة في القيام بعملهم رغم الظروف المالية والاقتصادية والصحية التي يعاني منها القضاة كما سائر فئات المجتمع. وطلب المجلس عدم الالتفات إلى الحملات التي تستهدف القضاء والقضاة، آملًا أن تكون الأيام المقبلة على مستوى آمالهم وآمال اللبنانيين في ترسيخ دولة القانون.
الثلاث سنوات من عمر المجلس انتهت وانقضت ولاية سبعة من أعضائه. فيما تستمرّ ولاية الأعضاء الحكميّين الثلاثة المعيّنين بمرسوم متّخذ في مجلس الوزراء، ويبقون في مواقعهم طوال مدّة تولّيهم مهمّاتهم، وهم: رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود، مدّعي عام التمييز غسان عويدات ورئيس التفتيش القضائي بركان سعد.
وفق الأصول المتّبعة، أرسلت وزيرة العدل ماري كلود نجم إلى رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب، أسماء القضاة لإصدار مرسوم أسماء أربعة قضاة اقترحت تعيينهم في عضوية مجلس القضاء الاعلى، وهم القاضيان في الاستئناف سامر يونس (الذي رفض المجلس مرتين تعيينه محققًا عدليًا في جريمة تفجير المرفأ بعد اقتراحه من قبل نجم)، ورولا الحسيني، والقاضية جويل فواز رئيسة هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، وهي زوجة القاضي هنري خوري الذي عيّنه رئيس الجمهورية رئيسًا لمجلس شورى الدولة، بعدما أطاح القاضي شكري صادر الذي سارع إلى تقديم استقالته، والقاضية ناتالي الهبر أحد رؤساء محاكم البداية.
ويُعيَّن خمسة من أعضاء مجلس القضاء الأعلى بمرسوم بناءً على اقتراح وزير العدل، ويُنتخَب قاضيان من ضمن رؤساء غرف التمييز الذين يشغلون مواقعهم بالأصالة وليس بالانتداب، وذلك لمدّة ثلاث سنوات غير قابلة للتجديد.
لكن تعذّر إتمام انتخاب عضويْ مجلس القضاء الأعلى بسبب الشغور على مستوى رؤساء غرف التمييز، وهم ستة من أصل عشرة قضاة يشغلون مواقعهم بالانتداب، ولا يحقّ لهم الترشّح إلى عضوية مجلس القضاء الأعلى، فيما فاز القاضي عفيف الحكيم (حصة الدروز) بالتزكية.
تمرير مرسوم نجم دونه عقبات، في الشكل وبحسب مصادر السراي الحكومي امتنع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب عن توقيع مشروع المرسوم المقدّم من وزيرة العدل ماري كلود نجم والقاضي بتعيين أربعة قضاة في مجلس القضاء الأعلى وردّ المرسوم إليها عبر الأمانة العامة لمجلس الوزراء معلّلًا عدم جواز التعيين في ظل حكومة تصريف أعمال فيما أرفق المشروع بعدد من الملاحظات.
ملاحظات دياب حول شكل التعيين ودستوريته في ظل حكومة تصريف أعمال، تضمنت تساؤلات حول استقلالية عمل السلطة القضائية والمعايير، التي بنت على أساسها اختيار القضاة، ومدى توفير الميثاقية الوطنية، وعدم اكتمال عملية انتخاب أحد رؤساء غرف محكمة التمييز في ظل عدم توقيع مرسوم التشكيلات القضائية.
وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم ردّت على الأسئلة المطروحة بأنها اختارت الأعضاء غير الحُكميين في مجلس القضاء الأعلى على أساس الكفاءة وليس لارتباطهم أو قربهم من أي فريق سياسي، كما يُشاع. وذلك بعد أن ثار الجدل حول اختيار القاضي سامر يونس، الذي سبق لمجلس القضاء الأعلى رفض تعيينه محققًا عدليًا في جريمة تفجير مرفأ بيروت.
القاضي سامر يونس خرج عن صمته ليردّ على استبعاده عن التعيينات في مجلس القضاء الأعلى بعدما كان المجلس نفسه قد رفض مرّتين تعيينه محقّقًا عدليًا في قضية انفجار المرفأ.
وهاجم يونس “المصدر القضائي الرفيع” الذي يتّهم يونس بالقرب من التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، مذكّرًا بأنّه تمّ نقله “في الزمن المسمّى برتقاليًا” من النيابة العامّة في بيروت بعدما اعتُبر “ضيفًا ثقيلًا” عليها. وتساءل يونس عمّا إذا كان هناك أحد، داخل القضاء أو خارجه، “مهتمًّا بكشف ومحاسبة هذا المصدر القضائي الرفيع، الضليع والخبير في محاولة اغتيال قضاة”.
الاتهامات بالتسييس ردّت عليها كذلك نجم رافضةً المزايدة عليها فيما خصّ استقلاليّة السلطة القضائيّة لافتةً إلى أنها لا تسعى إلى “استحواذ فريق سياسي معيّن على الثلث المعطل في المجلس”. وتمنت على دياب توقيع المرسوم كون فالبلاد لا تحتمل فراغًا أكبر ولا سيّما في مجلس القضاء الأعلى.
في القانون لا يوجد نص أو مادة في تنظيم القانون العدلي تقضي بأن يكون قاضي التمييز المنتخب أو المعيّن على تناغم مع رئيس مجلس القضاء الأعلى سواءً بتعيينه أو بانتخابه، بحسب مصادر قضائية مستاءة من سلوك المرسوم طريق التعطيل السياسي بخلاف دوافع رئيس حكومة تصريف الأعمال. فبحسب المعلومات فإن رئيس مجلس القضاء الأعلى لديه اعتراض على بعض الأسماء التي تنتمي إلى فريق واحد، الأمر الذي تنفيه مصادر في وزارة العدل، فالوزيرة نجم “أطلعت رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود على الأسماء قبل رفعها ولم يبدِ امتعاضًا بل قال إنها ممتازة”.
وفي البعد السياسي أيضًا سُجِّل اعتراضًا على الاسم الشيعي المقترح وهو القاضية رولا الحسيني. وكان لافتًا نشر القاضية غادة عون تغريدة على موقع “تويتر” بهذا الشأن قالت فيها “لماذا يرفض اسم القاضية رلى الحسيني لعضوية مجلس القضاء؟ أليس لأنها نظيفة الكف حرة الضمير لا تخضع إلا لضميرها”. وأضافت عون “لماذا يُرفَض قضاة مثل سامر يونس ودانيا دحداح والآخرين وهم كذلك أيضًا. مصادرة القرار القضائي مستمرة يا قضاة.. انتفضوا ولا تقبلوا بأقل من إقرار قانون استقلال السلطة القضائية”.
هذا التشابك بين القضاء والسياسة ليس جديدًا في لبنان. وعند الاشتباك يتعطّل كل شيء وفي لحظة التفاهم تستوي الإدارة في القضاء وغيرها. القاضي غالب غانم يعتبر أن الفراغ في مجلس القضاء الاعلى هو الأخطر ومن شأنه أن يقود إلى تشظي الجسم القضاء وإلى اصطفافات داخل بين أفراده”. وفي حين أن سياسة الفوز على الخصوم سائدة فإنَّ الساسة في لبنان يضحّون بالقضاء لتسجيل النقاط على بعضهم الآخر، ومتى تحوّل القضاء إلى مسرح سياسي سيزعزع الفراغ السلطة القضائية.
رانيا برو