على طريق عام حولا – مركبا الحدوديتين (قضاء مرجعيون)، علّقت لافتة تشير إلى بلدة هونين. وعلى الزائر أن ينحدر يمينًا باتجاه فلسطين المحتلّة، دقيقتان على الأكثر لتظهر معالم مستعمرة كبيرة وموقع عسكري، قريبًا من قلعة كبيرة تدعى ” قلعة هونين”.
جغرافيا المكان تأسرك، أراضي هونين المحرّرة متكاملة مع أراضيها المحتلّة، المستعمرة وحدها غريبة عن هذه البيئة، شكلًا ونمط حياة، لا يتآلف المشهد الحديث مع طبيعة هذه الأرض. أما أبناء هونين الذين هجّروا من ديارهم في العام 1948، وأقاموا في لبنان، ومنه هاجر المئات منهم إلى دول العالم المختلفة، لم يبتعدوا كثيرًا عن هونين. فالأجيال الجديدة، الذين لم يشاهدوا أحياء بلدتهم وأزقّتها، يذكرون كلّ شبر فيها، “ذاكرة الآباء انتقلت إليهم، حتى باتوا أكثر عجالة للدخول إلى بلدتهم” يقول أحد أبناء هونين، لافتًا إلى أنّ الجيل الجديد بدا أكثر تعاطفًا مع القضيّة، يأتون كلّ أسبوع إلى الأراضي المحرّرة التي تزيد مساحتها على 4000 دونم، وعمدوا إلى إبراز أوراق ثبوتية تثبت ملكيتهم لها، وبدأوا ببناء منازلهم هناك.
“حملة درب التحرير” هي الحملة التي أطلقها أبناء البلدة في العام 2016، “بهدف عدم بقاء الحديث عن هونين مجرّد ذكرى، بل ليصبح هدفًا وأمرًا ملموسًا” يقول علي قلايط أحد الناشطين في سبيل تحرير هونين، مبينًا أنّ “هذه الحملة بدأت بتشجيع أبناء البلدة المنتشرين في لبنان وخارج لبنان للوصول إلى أراضي البلدة المحرّرة، والجلوس في فيء أشجارها، ومن ثم تنظيف الأمكنة وفرز الأراضي، وإعادة البناء فيها، ليصبح مشهد هونين المحتلّة على بعد أمتار منّا”. ولأجل ذلك الهدف شيّدت الحملة مبنيين للصلاة والراحة، وعلى الراغبين بالحضور إلى أراضي هونين كل يوم أحد للتنزه والترفيه وتنشيط الذاكرة، وهكذا “عاد كبار السنّ إلى الأرض لسرد قصص الحياة في هونين إلى أبنائهم وأحفادهم”. عصر كل يوم أحد ينظّم أبناء هونين مسيرة باتجاه أقرب نقطة على الحدود، ويبدأون بالإشارة إلى الأحياء القديمة المهدّمة، ويسردون أسماء الشوارع والتلال، وقصص كبار السنّ. هناك قرّر علي قليط الاحتفال بزواجه، بعد أن وجّه دعوة إلى معظم أبناء هونين المقيمين في لبنان، فحضر العشرات منهم حفل زفافه قرب الحدود وأمام أعين جنود العدوّ. في هونين المحرّرة اليوم 14 منزلًا جديدًا لأبناء البلدة، “ستصبح هذه الأراضي مليئة بالمنازل، إلى حين تحرير الأراضي المحتلّة لنستكمل الزحف العمراني”.
تعود مؤامرة احتلال هونين إلى أيّام الانتداب، يوم قرّر الفرنسيون التنازل عن هونين لمصلحة بريطانيا طمعًا بالحصول على امتياز استثمار المياه في أصبع الجليل، “كانت المؤامرة بتدبير انكليزي تمهيدًا لضمّ القرى السبع، من بينها هونين، إلى ما يسمى بدولة اسرائيل”. جغرافية هونين مميّزة، إذ يبدأ ارتفاعها عن سطح البحر حوالي 850 متر، في الجهة المحرّررة، ليصل إلى 82 مترًا قرب سهل الحولة، ثم يرتفع إلى 902 مترًا باتجاه جبل الشيخ، وبالتالي تتنوّع فيها الطبيعة، ويتصل عمقها بسهل الحولة في أكثر الأماكن غزارة للمياه، وفيها قلعة تراثية يعود بناؤها إلى الصليبيين ومدافن رومانية، ما يؤكد أهمية موقعها الجغرافي، إذ تشرف القلعة على قلعة الشقيف (أرنون)، وأصبع الجليل المحتلّ، وجبل الشيخ ومجدل شمس والقنيطرة ومشارف الأردن. أمّا مدرسة البلدة القديمة فقد ضلّت شامخة ببنائها الحجري، إلى أن قرّر العدو هدمها بعد العام 2010 ليستخدم حجارتها في بناء متحف مزوّر له. كانت هونين مركز الحكم والقرار في العام 1867، ثم أصبحت جزءًا من دولة لبنان الكبير، مساحتها المسجّلة هي 14300 دونم لكن أبناء البلدة يبينون بأنّها تزيد على 35000 دونم، أمّا عدد أبناؤها الأصليين فيزيد على 35000 نسمة.
يوم قرّر العدو تهجير أبنائها، استخدم القوّة والبطش وأبشع المجازر، كعادته، حينها “طلب العرب من أبناء هونين ترك البلدة إلى حين تحريرها، فانتقلوا إلى قرى وبلدات مرجعيون، لكنّهم لا يزالون ينتظرون التحرير”. يذكر قلايط أنّه عند نزوح أبناء البلدة، قرّر أربعة من نساء البلدة العودة لإحضار بعض الأغراض من منازلهن، لكنّهن لم يعدن، بقي مصيرهن مجهولًا، إلى أن وقع بين أيدينا كتاب من مذكرات طبيب شرعي يهودي، كتب فيه أنّ جنود العدوّ يومها قد اغتصبوا النساء الأربعة قبل قتلهن”. في سبيل تحرير لبنان وهونين سقط من أبناء البلدة عشرات الشهداء، من بينهم الشهيد موسى دبيه، الرجل (المجنون) الذي كان أبناء البلدة يخافون منه، لكنّه عند احتلال هونين أصرّ على البقاء، وقاتل رجال العدوّ بعصاه ولحمه الحيّ إلى حين استشهاده.